إدلبي في الكاميرون ..
بقلم الدكتور : رياض نعسان آغا.
كنا وفداً من مجلس الشعب السوري في مؤتمر دولي للبرلمانيين عقد في الكاميرون مطلع التسعينيات، وقد اختارني الصديق عبد القادر قدورة لعضوية الوفد مع عدد من الزملاء البرلمانيين، وخصنا الرئيس الراحل حافظ الأسد بطائرة رئاسية تقلنا عبر مجاهل أفريقيا إلى شاطئ الأطلسي حيث تقع الكاميرون، وقد مضينا إلى السودان، ومنها انطلقنا غرباً في رحلة طويلة كنت أزجي الوقت فيها بالجلوس مع صديقي الكابتن في قمرة القيادة، أتأمل عظمة الطبيعة، وغابات أفريقيا التي تشكل محيطاً من الخضرة، لكن صاحبي قائد الطائرة توقف عن الحديث فجأة، وبدا عليه اضطراب جعلني أسأله: خيراً؟ هل ثمة طارئ؟
قال: نعم ولكن أرجوك ألا تخبر الوفد فقد نجد حلاً، قلت: أهو عطل فني في الطائرة؟
قال: لا، ولكننا ضائعون، لقد فقدت الاتصال، ولم أعد أدري أين صرنا! وأخشى أن يطول ضياعنا فنفقد الوقود•
ولكوني مؤلفاً درامياً فقد أتممت تأليف ما يمكن أن يحدث، فإن طال الضياع في سماء أفريقيا، سيضطر صاحبنا إلى هبوط اضطراري، ولم أشأ أن أسأله وهو في صمته المريب ماذا بوسعه أن يفعل! فقد قدرت صعوبة الهبوط الاضطراري فوق شوامخ الغابات الكثيفة، وبت أسترق النظر لعلي أرى فسحة بلا شجر، فأتدخل فيما لا يعنيني وأنصحه بالهبوط فيها، لكن الرجل كان متين الأعصاب، يحاول عبر أجهزة اللاسلكي في الطائرة أن يحادث طيراً يمر فوق أو تحت الطائرة، أو مطاراً مدنياً أو عسكرياً في مكان يلتقط الإشارة، ولكن لا فائدة، بعد صمت خلته طال سألته: أين تتوقع أن نكون الآن؟
قال: نحن نتجه غرباً، ولكننا بحاجة للتزود بالوقود خشية أن يطول تحليقنا ونحن ضائعون، لا توجد أية إشارة، لا طائرة في سمائنا، ولا مطار حولنا، ولا أحد يلتقط إشارتنا، وأظن أننا حول نيجيريا، لكنني لست متأكداً، كانت الدقائق عندي تتحول إلى ساعات، قلت أعتقد أنه صار علينا أن نخبر وفدنا مع أنهم لن يفعلوا شيئاً سوى أن يقلقوا مثلنا، كنا خمسة أشخاص، وطاقم الطائرة خمسة، وضعت أسوأ الاحتمالات، خبر في الصفحة الأولى من جرائدنا، إثر تحطم الطائرة بسبب هبوط اضطراري لم ينجح وفقدان خمسة برلمانيين في أفريقيا وهم في طريقهم إلى مؤتمر دولي في الكاميرون ، حسناً ذاك قدرنا، فلا تدري نفس بأي أرض تموت، وسيكون من المفارقات الكبرى أن نسافر إلى مجاهل أفريقيا كي نموت فوق غاباتها السوداء، يا إلهي!!
كم تبدو الطبيعة مخيفة! بت لا أرى جمالها، إنما أتأمل قوتها الساحقة التي يدرك الإنسان مقدار ضعفه أمامها وهو الجبار الذي ينسى أنه من أضعف خلق الله، قرأت الفاتحة في سري مرات، وقلت لصاحبي الكابتن: يجب أن نخبر الوفد، فقد مضت ساعة ونصف وقد نكون في اتجاه خاطئ، صحيح أنهم لن يفعلوا شيئاً ولكن عليهم أن يتربصوا، كيلا تفاجئهم المصيبة،بدا الكابتن أشد قلقاً مني، وقال: حسناً أخبر الأستاذ عبد القادر فهو رئيس الوفد، وليقل لنا ماذا بوسعنا أن نفعل•
كان رفاقي في الوفد يتبادلون الأحاديث المسلية، وقال أحدهم حين خرجت عليهم من قمرة القيادة ، طولت الغيبة، قلت أخشى أن تطول أكثر، يا جماعة نحن في مشكلة والكابتن لم يكن يريد إزعاجكم، قالوا: خيراً؟ قلت نحن ضائعون في السماء، صاحبنا (شوفير) الطائرة فقد الاتصال ولم يعد يدري أين نحن وفي أي فضاء نطير، والأمر لرئيسنا أبو قيس (عبد القادر)
قال: الأمر لله وللكابتن، فهو أدرى بما ينبغي أن يفعل، وعدت إلى الكابتن فإذا هو يواصل البحث عن عابر سبيل في الفضاء، وطال الصمت والترقب، إلى أن فرجها الله ومرت طائرة سمعت نداءنا، وتم توجيهنا أخيراً إلى مطار أبودجا، والمفارقة أن طائرة ياسر عرفات سقطت ربما في ذات المكان الذي ضعنا فيه بعد أسابيع قليلة من ضياعنا، واكتشفه الأمريكان ربما لأنهم كانوا يرصدونه•
المهم أنني قلت لأصحابي في الوفد: أحسب أنني الإدلبي الوحيد الذي زار الكاميرون، لكن المفاجأة كانت في المساء، بعد أن عدنا من عشاء رسمي عند رئيس الجمهورية، وأذاع التليفزيون خبر اللقاء وصورنا وأسماءنا، فقد عدت إلى الفندق لأجد رسالة اتصال من شخص يرحب بي ويقول إنه من بلدي إدلب ويعيش منذ سنين طويلة في الكاميرون، اتصلت به، وروى لي القصة الطريفة لوجوده في تلك البلاد البعيدة، قال إن جده سافر مطلع القرن العشرين إلى بيروت، وهناك أغراه صاحبه بالهجرة إلى أمريكا، وغادرا بالسفينة التي لا يدرون إلى أين تتجه، وقال لهم القبطان بعد إبحار طال ، هيا انزلوا وصلنا إلى أمريكا، ولم يعرف الرجلان إلا بعد حين أنهما في شاطئ أفريقيا وليس أمريكا، فالسفينة غيرت اتجاهها، وتخلص القبطان من الركاب الذين يجهلون أين هم، واستقر الرجل حيث وصل، وعمل حلاقاً، وكان من بين زبائنه شاب من الكاميرون يدرس في باريس، ويحب أن يسمع من حلاقه حكايات عن الحرب العالمية الأولى، وعن الدولة العثمانية وعن العرب، وتوطدت صلة الرجل مع زبونه المثقف الذي عاد إلى بلاده (الكاميرون) وأصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية فيها ، ولم يجد ما يقدمه لصديقه الحلاق غير جبل كثيف الغابات أهداه له، ولم يفد الحلاق الإدلبي من الجبل، لكن أبناءه وأحفاده، وجدوا فيه ثروة الأخشاب التي هي أهم تجارة في البلاد بعد النفط، رحب بي ابن بلدي الشاب الذي لا يعرف إدلب، ولكن جده زرعها في وجدانه، وقلت للصحب ضاحكاً: أرأيتم؟
لا يوجد مكان ليس فيه إدلبي•
بقلم الدكتور : رياض نعسان آغا.
كنا وفداً من مجلس الشعب السوري في مؤتمر دولي للبرلمانيين عقد في الكاميرون مطلع التسعينيات، وقد اختارني الصديق عبد القادر قدورة لعضوية الوفد مع عدد من الزملاء البرلمانيين، وخصنا الرئيس الراحل حافظ الأسد بطائرة رئاسية تقلنا عبر مجاهل أفريقيا إلى شاطئ الأطلسي حيث تقع الكاميرون، وقد مضينا إلى السودان، ومنها انطلقنا غرباً في رحلة طويلة كنت أزجي الوقت فيها بالجلوس مع صديقي الكابتن في قمرة القيادة، أتأمل عظمة الطبيعة، وغابات أفريقيا التي تشكل محيطاً من الخضرة، لكن صاحبي قائد الطائرة توقف عن الحديث فجأة، وبدا عليه اضطراب جعلني أسأله: خيراً؟ هل ثمة طارئ؟
قال: نعم ولكن أرجوك ألا تخبر الوفد فقد نجد حلاً، قلت: أهو عطل فني في الطائرة؟
قال: لا، ولكننا ضائعون، لقد فقدت الاتصال، ولم أعد أدري أين صرنا! وأخشى أن يطول ضياعنا فنفقد الوقود•
ولكوني مؤلفاً درامياً فقد أتممت تأليف ما يمكن أن يحدث، فإن طال الضياع في سماء أفريقيا، سيضطر صاحبنا إلى هبوط اضطراري، ولم أشأ أن أسأله وهو في صمته المريب ماذا بوسعه أن يفعل! فقد قدرت صعوبة الهبوط الاضطراري فوق شوامخ الغابات الكثيفة، وبت أسترق النظر لعلي أرى فسحة بلا شجر، فأتدخل فيما لا يعنيني وأنصحه بالهبوط فيها، لكن الرجل كان متين الأعصاب، يحاول عبر أجهزة اللاسلكي في الطائرة أن يحادث طيراً يمر فوق أو تحت الطائرة، أو مطاراً مدنياً أو عسكرياً في مكان يلتقط الإشارة، ولكن لا فائدة، بعد صمت خلته طال سألته: أين تتوقع أن نكون الآن؟
قال: نحن نتجه غرباً، ولكننا بحاجة للتزود بالوقود خشية أن يطول تحليقنا ونحن ضائعون، لا توجد أية إشارة، لا طائرة في سمائنا، ولا مطار حولنا، ولا أحد يلتقط إشارتنا، وأظن أننا حول نيجيريا، لكنني لست متأكداً، كانت الدقائق عندي تتحول إلى ساعات، قلت أعتقد أنه صار علينا أن نخبر وفدنا مع أنهم لن يفعلوا شيئاً سوى أن يقلقوا مثلنا، كنا خمسة أشخاص، وطاقم الطائرة خمسة، وضعت أسوأ الاحتمالات، خبر في الصفحة الأولى من جرائدنا، إثر تحطم الطائرة بسبب هبوط اضطراري لم ينجح وفقدان خمسة برلمانيين في أفريقيا وهم في طريقهم إلى مؤتمر دولي في الكاميرون ، حسناً ذاك قدرنا، فلا تدري نفس بأي أرض تموت، وسيكون من المفارقات الكبرى أن نسافر إلى مجاهل أفريقيا كي نموت فوق غاباتها السوداء، يا إلهي!!
كم تبدو الطبيعة مخيفة! بت لا أرى جمالها، إنما أتأمل قوتها الساحقة التي يدرك الإنسان مقدار ضعفه أمامها وهو الجبار الذي ينسى أنه من أضعف خلق الله، قرأت الفاتحة في سري مرات، وقلت لصاحبي الكابتن: يجب أن نخبر الوفد، فقد مضت ساعة ونصف وقد نكون في اتجاه خاطئ، صحيح أنهم لن يفعلوا شيئاً ولكن عليهم أن يتربصوا، كيلا تفاجئهم المصيبة،بدا الكابتن أشد قلقاً مني، وقال: حسناً أخبر الأستاذ عبد القادر فهو رئيس الوفد، وليقل لنا ماذا بوسعنا أن نفعل•
كان رفاقي في الوفد يتبادلون الأحاديث المسلية، وقال أحدهم حين خرجت عليهم من قمرة القيادة ، طولت الغيبة، قلت أخشى أن تطول أكثر، يا جماعة نحن في مشكلة والكابتن لم يكن يريد إزعاجكم، قالوا: خيراً؟ قلت نحن ضائعون في السماء، صاحبنا (شوفير) الطائرة فقد الاتصال ولم يعد يدري أين نحن وفي أي فضاء نطير، والأمر لرئيسنا أبو قيس (عبد القادر)
قال: الأمر لله وللكابتن، فهو أدرى بما ينبغي أن يفعل، وعدت إلى الكابتن فإذا هو يواصل البحث عن عابر سبيل في الفضاء، وطال الصمت والترقب، إلى أن فرجها الله ومرت طائرة سمعت نداءنا، وتم توجيهنا أخيراً إلى مطار أبودجا، والمفارقة أن طائرة ياسر عرفات سقطت ربما في ذات المكان الذي ضعنا فيه بعد أسابيع قليلة من ضياعنا، واكتشفه الأمريكان ربما لأنهم كانوا يرصدونه•
المهم أنني قلت لأصحابي في الوفد: أحسب أنني الإدلبي الوحيد الذي زار الكاميرون، لكن المفاجأة كانت في المساء، بعد أن عدنا من عشاء رسمي عند رئيس الجمهورية، وأذاع التليفزيون خبر اللقاء وصورنا وأسماءنا، فقد عدت إلى الفندق لأجد رسالة اتصال من شخص يرحب بي ويقول إنه من بلدي إدلب ويعيش منذ سنين طويلة في الكاميرون، اتصلت به، وروى لي القصة الطريفة لوجوده في تلك البلاد البعيدة، قال إن جده سافر مطلع القرن العشرين إلى بيروت، وهناك أغراه صاحبه بالهجرة إلى أمريكا، وغادرا بالسفينة التي لا يدرون إلى أين تتجه، وقال لهم القبطان بعد إبحار طال ، هيا انزلوا وصلنا إلى أمريكا، ولم يعرف الرجلان إلا بعد حين أنهما في شاطئ أفريقيا وليس أمريكا، فالسفينة غيرت اتجاهها، وتخلص القبطان من الركاب الذين يجهلون أين هم، واستقر الرجل حيث وصل، وعمل حلاقاً، وكان من بين زبائنه شاب من الكاميرون يدرس في باريس، ويحب أن يسمع من حلاقه حكايات عن الحرب العالمية الأولى، وعن الدولة العثمانية وعن العرب، وتوطدت صلة الرجل مع زبونه المثقف الذي عاد إلى بلاده (الكاميرون) وأصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية فيها ، ولم يجد ما يقدمه لصديقه الحلاق غير جبل كثيف الغابات أهداه له، ولم يفد الحلاق الإدلبي من الجبل، لكن أبناءه وأحفاده، وجدوا فيه ثروة الأخشاب التي هي أهم تجارة في البلاد بعد النفط، رحب بي ابن بلدي الشاب الذي لا يعرف إدلب، ولكن جده زرعها في وجدانه، وقلت للصحب ضاحكاً: أرأيتم؟
لا يوجد مكان ليس فيه إدلبي•