حكاية إدلبية- قاشوشة الجب
خطيب بدلة
سأحدثكم في هذه الحلقة عن صديقي عبد الصمد الإبراهيم الذي لقبناه من أجل الدلال والدلع (صمود)، وهو رجل ظريف دائم الابتسام والمرح، ومن أكثر من عرفت استعداداً للمزاح والمناقرة مع الآخرين، إضافة إلى أنه يمتلك ذاكرة فولاذية تؤهله لمعرفة أشياء قلما يجهد أحد في البلد ذاكرته لمعرفتها وحفظها.
إذا ذكرت أمام صمود اسم أي شخص من أهل مدينة إدلب سرعان ما يعطيك (الفيش) الخاص بهذا الشخص، و(إحداثياته الكاملة).. يحدثك عن أبيه، وأمه، وكيف تزوجها، وأخواله، ولقبه الشخصي، ولقب أهل زوجته، وإذا كان قد تزوج قبلها بامرأة أخرى، ومن تكون تلك المرأة، وما هي إحداثياتها، ويروي لك قصة واحدة على الأقل عن هذه أسرة الأب، وأسرة الأم، وأسرة الزوجة، يرويها بطريقة حسية كوميدية تشعرك بأن أحداثها تجري أمامك الآن.
قلت له ذات مرة ممازحاً: أنت يا أبو ابراهيم مثل قاشوشة الجب أيام زمان. ألا تعرف القاشوشة؟
فقال لي: الآن سأزعل منك، إذا لم أعرف أنا القاشوشة، من يعرفها؟
ويبدو أن سؤالي قد بعث النشاط في ذاكرته فأخذ يشرح لي ويستفيض فيما يعرفه في هذا المضمار، فقال:
لم يكن في إدلب قديماً شبكة مياه كالموجودة الآن، وكان الناس يعتمدون على مياه الآبار، ويقال لها (الجباب) من أجل الشرب والنظافة والاغتسال. وكانوا يمتحون الماء من الجب بواسطة القادوس المربوط بحبل رفيع مصنوع من المصيص. ومن كثرة الاحتكاك بين الحبل وحافة الجب أثناء المتح ينقطع الحبل ويسقط القادوس في الجب، فيقع أصحاب البيت في مأزق، إذ كيف يمكنهم العيش من دون قادوس؟
وكان في إدلب رجل يدعى (أبو قدور) ينتمي إلى إحدى العائلات الكبرى في البلد. وكانت إحدى عينيه قد اقتلعت في مشاجرة جماعية نشبت بسبب طائر من الحمام وذهب ضحيتها عدد من القتلى والجرحى..
كان أبو قدور خبيراً في استخراج القواديس الواقعة في الجباب بواسطة القاشوشة، وهي عبارة عن حديدة مبسطة عرضانية تتصل بها مجموعة من الكلاليب الحديدية، ينزلها صاحبنا بالحبل في ماء الجب ويبدأ بتحريكها دائرياً من اليسار إلى اليمين مثلما تحرك المرأة الطبيخ الموجود في القدر فوق نار الأثفية، فإذا أحس بأن إحدى الكلابات قد التقطت القادوس من أذنه يوقف يده عن الدوران، ويسحب القادوس إلى الأعلى ببطء وأناة حتى يوصله إلى السطح بأمان.
وكان أبو قدور، إضافة إلى ذلك، نزقاً إلى أبعد الحدود، وأحمق، فإذا أغضبه أحد بكلمة ينفلت لسانه بالكلام السوقي المنتقى من الصينية بعناية، ولا يعود يراعي أحداً، ولا يهتم لمن يزعل منه أو يرضى..
وكان في إدلب قديماً رجل حرامي تاب في آخر عمره عن هواية السرقة اسمه (أبو دعموس)، وكان أبو قدور يكرهه ويتطير منه، لقناعة راسخة لديه بأن السرقة عادة كريهة لا يمكن لمن يتوب عنها أن يبرأ منها نهائياً، فإذا وقعت تحت يده سرقة في ظرف موات لا بد له أن ينقض التوبة ولو مؤقتاً ويلهفها ثم يتناول أقرب مصحف شريف ويحلف عليه بأن عينه لم تقع عليها!
في إحدى المرات، وكان أبو قدور غاضباً على نحو مسبق، طُرق باب داره، فتح فوجد به ابن أبي دعموس الذي بادأه بالقول:
- يا عمي أبا قدور يسلم عليك أبي، ويرجوك أن تعيرنا قاشوشتك لكي نخرج بها القادوس من الجب.
هنا وصل غضب أبي قدور إلى الأوج وقال للولد: لا تسلم لي على أبيك. وقل له الله لا يسلم فيك أي عرق من عروقك. تريد أن تستعير قاشوشتي؟ وهل قاشوشتي مدشرة لأبيك ولأمثاله من الحرامية الذين يسرقون الكحل من العين؟
سعل أبو قدور من شدة الانفعال وقال:
- الظاهر أن أباك المحترم قد عاين قاشوشتي ويريد أن يسرقها؟ هل تعرف يا ابن أبا دعموس أن أباك كان يسرق الغسيل من على الحبال قبل أن يجف؟ أتعرف؟ ذات مرة وضعت جارتنا قشة الخروف على النار، بعدما غسلتها ونظفتها، وجلس جارنا المسكين ينتظر حتى تنضج ليتعشى، وإذا بأبيك قد سرق الطنجرة بمحتوياتها.
توقف أبو قدور عن الردح للولد، ثم ضحك ضحكة هازئة وقال للولد:
- خطرت لي فكرة كويسة، أبوك طول عمره يده طويلة، فلماذا لا يمدها إلى الجب بدلاً من القاشوشة ويسرق القادوس؟
خطيب بدلة
سأحدثكم في هذه الحلقة عن صديقي عبد الصمد الإبراهيم الذي لقبناه من أجل الدلال والدلع (صمود)، وهو رجل ظريف دائم الابتسام والمرح، ومن أكثر من عرفت استعداداً للمزاح والمناقرة مع الآخرين، إضافة إلى أنه يمتلك ذاكرة فولاذية تؤهله لمعرفة أشياء قلما يجهد أحد في البلد ذاكرته لمعرفتها وحفظها.
إذا ذكرت أمام صمود اسم أي شخص من أهل مدينة إدلب سرعان ما يعطيك (الفيش) الخاص بهذا الشخص، و(إحداثياته الكاملة).. يحدثك عن أبيه، وأمه، وكيف تزوجها، وأخواله، ولقبه الشخصي، ولقب أهل زوجته، وإذا كان قد تزوج قبلها بامرأة أخرى، ومن تكون تلك المرأة، وما هي إحداثياتها، ويروي لك قصة واحدة على الأقل عن هذه أسرة الأب، وأسرة الأم، وأسرة الزوجة، يرويها بطريقة حسية كوميدية تشعرك بأن أحداثها تجري أمامك الآن.
قلت له ذات مرة ممازحاً: أنت يا أبو ابراهيم مثل قاشوشة الجب أيام زمان. ألا تعرف القاشوشة؟
فقال لي: الآن سأزعل منك، إذا لم أعرف أنا القاشوشة، من يعرفها؟
ويبدو أن سؤالي قد بعث النشاط في ذاكرته فأخذ يشرح لي ويستفيض فيما يعرفه في هذا المضمار، فقال:
لم يكن في إدلب قديماً شبكة مياه كالموجودة الآن، وكان الناس يعتمدون على مياه الآبار، ويقال لها (الجباب) من أجل الشرب والنظافة والاغتسال. وكانوا يمتحون الماء من الجب بواسطة القادوس المربوط بحبل رفيع مصنوع من المصيص. ومن كثرة الاحتكاك بين الحبل وحافة الجب أثناء المتح ينقطع الحبل ويسقط القادوس في الجب، فيقع أصحاب البيت في مأزق، إذ كيف يمكنهم العيش من دون قادوس؟
وكان في إدلب رجل يدعى (أبو قدور) ينتمي إلى إحدى العائلات الكبرى في البلد. وكانت إحدى عينيه قد اقتلعت في مشاجرة جماعية نشبت بسبب طائر من الحمام وذهب ضحيتها عدد من القتلى والجرحى..
كان أبو قدور خبيراً في استخراج القواديس الواقعة في الجباب بواسطة القاشوشة، وهي عبارة عن حديدة مبسطة عرضانية تتصل بها مجموعة من الكلاليب الحديدية، ينزلها صاحبنا بالحبل في ماء الجب ويبدأ بتحريكها دائرياً من اليسار إلى اليمين مثلما تحرك المرأة الطبيخ الموجود في القدر فوق نار الأثفية، فإذا أحس بأن إحدى الكلابات قد التقطت القادوس من أذنه يوقف يده عن الدوران، ويسحب القادوس إلى الأعلى ببطء وأناة حتى يوصله إلى السطح بأمان.
وكان أبو قدور، إضافة إلى ذلك، نزقاً إلى أبعد الحدود، وأحمق، فإذا أغضبه أحد بكلمة ينفلت لسانه بالكلام السوقي المنتقى من الصينية بعناية، ولا يعود يراعي أحداً، ولا يهتم لمن يزعل منه أو يرضى..
وكان في إدلب قديماً رجل حرامي تاب في آخر عمره عن هواية السرقة اسمه (أبو دعموس)، وكان أبو قدور يكرهه ويتطير منه، لقناعة راسخة لديه بأن السرقة عادة كريهة لا يمكن لمن يتوب عنها أن يبرأ منها نهائياً، فإذا وقعت تحت يده سرقة في ظرف موات لا بد له أن ينقض التوبة ولو مؤقتاً ويلهفها ثم يتناول أقرب مصحف شريف ويحلف عليه بأن عينه لم تقع عليها!
في إحدى المرات، وكان أبو قدور غاضباً على نحو مسبق، طُرق باب داره، فتح فوجد به ابن أبي دعموس الذي بادأه بالقول:
- يا عمي أبا قدور يسلم عليك أبي، ويرجوك أن تعيرنا قاشوشتك لكي نخرج بها القادوس من الجب.
هنا وصل غضب أبي قدور إلى الأوج وقال للولد: لا تسلم لي على أبيك. وقل له الله لا يسلم فيك أي عرق من عروقك. تريد أن تستعير قاشوشتي؟ وهل قاشوشتي مدشرة لأبيك ولأمثاله من الحرامية الذين يسرقون الكحل من العين؟
سعل أبو قدور من شدة الانفعال وقال:
- الظاهر أن أباك المحترم قد عاين قاشوشتي ويريد أن يسرقها؟ هل تعرف يا ابن أبا دعموس أن أباك كان يسرق الغسيل من على الحبال قبل أن يجف؟ أتعرف؟ ذات مرة وضعت جارتنا قشة الخروف على النار، بعدما غسلتها ونظفتها، وجلس جارنا المسكين ينتظر حتى تنضج ليتعشى، وإذا بأبيك قد سرق الطنجرة بمحتوياتها.
توقف أبو قدور عن الردح للولد، ثم ضحك ضحكة هازئة وقال للولد:
- خطرت لي فكرة كويسة، أبوك طول عمره يده طويلة، فلماذا لا يمدها إلى الجب بدلاً من القاشوشة ويسرق القادوس؟