بابلو نيرود؟ من يصدق أن31 عاما أيضا مرت علي وفاته. تلك الوفاة التي جاءت بعد مرور عامين فقط من حصوله علي جائزة نوبل في الأدب وكأن الموت كان ينتظر تكريمه ليضمه إليه بلا رجعة. بابلو نيرودا: اسمه الحقيقي نفتالي ريكاردو رييزولد في الثاني عشر من شهر يوليو عام1904 في قرية بارال بوسط شيلي كانت والدته روزا نفتالي تعمل بمهنة التدريس أما والده جوزيه ديل كارمن فكان عاملا بسيطا في السكة الحديد وإن كان نيرودا نفسه قد أشار إليه في إحدي قصائده علي أنه سائق القطار.
لم يكن عام مولد نفتالي أو بابلو كما اشتهر بعد ذلك بالعام السعيد خاصة بعد أن اختطف الموت والدته في نهاية شهر أغسطس أي قبل أن يكمل الرضيع شهره الثاني نتيجة إصابتها بالدرن, ولعل ذلك كان أحد أهم أسباب حزنه الدائم وانكسار قلبه بعد حرمانه من حنان أهم شخصية في الوجود فرغم زواج والده بعد ذلك بعامين من' ترينيداد كانديا' التي وصفها بابلو بأنها الملاك الحامي لطفولته إلا أنه ظل مفتقدا لحنان الأم.
قبل أن يكمل بابلو عامه الخامس عشر كانت إبداعاته الشعرية قد بدأت في الظهور بدأ ذلك تحديدا عام1917 عندما كتب قصيدته عيناي والتي وقع عليها باسمه الحقيقي نفتالي رييز ولكنه عام1920 اختار لنفسه اسما جديدا هو بابلو نيرودا والذي ظهر أول مرة في قصيدته التي لم تطرح في الأسواق' جزر غريبة'. في مارس عام1921 بدأ نيرودا يشعر بموهبته الشعرية لذلك قرر السفر إلي سانتياجو حيث استقر هناك في بيت الطلبة لاستكمال دراسته في اللغة الفرنسية التي كان يجيدها مثل أهلها وفي أكتوبر من نفس العام ظهرت قصيدته' أغنية العيد' والتي فازت بالجائزة الأولي في مسابقة اتحاد الطلاب والتي كانت مؤشرا لظهور ليس فقط باقي قصائده, لكن لظهور الوجه الثوري لهذا الشاعر الرومانسي الذي يبدو حالما حزينا علي طول المدي ففي نفس هذا العام اشترك نيرودا في المظاهرت الثورية التي اندلعت في البلاد آنذاك وذلك قبل أن ينتج ديوانه الثاني' الغسق' والذي اضطر من أجله لبيع بعض أثاث منزله وساعة اليد التي كان قد أهداها له والده. ونأتي لرائعة نيرودا' عشرون قصيدة حب وأغنية لليأس' والتي تعد بحق أول ديوان حقيقي له حيث ترجم إلي الإنجليزية مما جعله أكثر كتبه انتشارا في هذا الديوان نجد الحزن وانكسار القلب هما المسيطران علي روح القصيدة ولعل هذا يتضح جليا من خلال بعض هذه الأبيات الشعرية:
يلفني خصرك الضبابي
صمتك يطارد ساعاتي المعذبة
وأنت ذراعان من حجر شفاف
تعشش فيهما أشواقي الخضراء
وترسو قبلاتي
آه! صوتك الغامض يخضبه الحب
ويحنو في المساء رنانا فانيا
في قلب الزمان علي الحقول
رأيت السنابل تنحني في فم الريح
في عام1924 يهجر نيرودا دراسة اللغة الفرنسية ويتخصص في الأدب ويكتب ثلاثة أعمال تجريبية وذلك قبل أن يبدأ رحلة تعيينه سفيرا في العديد من البلدان تنتهي بكونه سفيرا في الأرجنتين عام1933 أي بعد زواجه من الهولندية الجميلة' ماريكا' بثلاث سنوات والتي انتهي زواجه منها بإنجاب طفلته مارفا مارينا التي ولدت في مدريد في الرابع من أكتوبر عام1934 والطريف أنه في نفس العام وتحديدا بعد شهرين تزوج نيرودا من زوجته الثانية ديليا ديل كاريل الأرجنتينية الشيوعية والتي تكبره بعشرين عاما والتي كانت تعشق الرسم خاصة رسم الخيل وقد انبهر بها نيرودا وسرعان ما ارتمي في أحضانها لأنها الوحيدة التي أخرجته من حالة الاكتئاب التي كادت تنتابه عقب علمه بمرض طفلته المزمن والذي كان يهدد حياتها. في تلك الأثناء اكتسب نيرودا شهرة عالمية واسعة جعلته واحدا من أكبر وأهم شعراء أمريكا اللاتينية ورغم كونه قد عمل سفيرا في العديد من الدول الأوروبية إلا أن ذلك لم يزده سوي إصرارا علي أن الشيوعية- التي اندلعت شرارتها في روسيا- ليست سوي المنقذ الحقيقي والحل السحري لكل المشكلات ورغم المتاعب التي سببها له هذا الاتجاه السياسي إلا أنه ظل متمسكا به إلي حد استقالته من عمله الدبلوماسي.
ويبدو أن الأفكار الشيوعية هذه قد أثرت علي الأسلوب الشعري لنيرودا فبعد أن كانت قصائده تمتاز بالرومانسية والحزن والحس المرهف أخذت القصائد تتطور لتصبح أقرب إلي السريالية التي كانت في ذلك الوقت تطغي علي المنظومة الفكرية والفنية في أوروبا كلها. يظهر هذا واضحا من خلال قصيدة نيرودا' إقامة علي الأرض' والتي امتلأت بالعديد من الصور المأساوية لما أحدثته الحضارة من دمار شامل علي الأرض وقد ظهرت هذه القصيدة عام1935 أي قبل عام واحد من انفجار الحرب الأسبانية والتي فجرت معها واحدة من أعظم قصائد نيرودا السياسية'نشيد الي أمهات المحاربين الموتي'. يأتي عام1937 ويعود نيرودا إلي شيلي تحديدا في10 أكتوبر ليكتب قصيدة' أسبانيا في القلب' والتي يقول فيها:
كنت أسكن في حي بمدريد
به أجراس
به ساعات به أشجار
منزلي كان يسمي منزل الزهور
لأن في كل ركن من أركانه
كانت تتفجر الزهور
من تحت الأرض
هل تتذكر يا رافاييل
هل تتذكر منزلي ذي الشرفات
نبض عميق من الأقدام والأيدي
كان يملأ الشوارع
وذات صباح كان كل شئ يحترق
ذات صباح كانت النيران تخرج من الأرض
وفي الشوارع كانت دماء الصغار
تجري مثل الأطفال
انظروا إلي منزلي الميت
انظروا إلي أسبانيا المنكسرة
من كل منزل ميت يخرج الحديد الملتهب
بدلا من الزهور
عندما كتب نيرودا هذه القصيدة لم يكن يعلم أنه سيواجه في العام التالي وفاة والده وكذلك زوجته الأولي والدة ابنته والتي توفيت هي الأخري متأثرة بمرضها عام.1942 في تلك الأثناء لم يكن نيرودا قد كتب شيئا يذكر خاصة في ظل الأعمال السياسية التي قام بها, لكنه سرعان ما استعاد موهبته الشعرية وكتب لنا تحفته' النشيد العام' عام1950 حيث عرض في هذا العمل الضخم تاريخ قارة أمريكا اللاتينية من منظور اجتماعي وسياسي ويؤكد أن للشعب الدور الرئيسي في التاريخ محتقرا كل الشعراء الذين يطلقون علي أنفسهم اسم الشعراء السماويين قائلا لهم:
ماذا فعلتم أنتم يا أهل جيان
يا مدعي الثقافة يا من تهتمون بالقوافي
يا مدعي الصوفية يا زيف من السحرة
ماذا فعلتم تجاه سلطة الكرب أمام هذا الجنس البشري الغامض
ويستمر التطور الشعري عند نيرودا وذلك من خلال تساؤلاته والتي دفعته اليها الرغبة في التوغل في جذور القارة اللاتينية لذلك نجده في ديوانه' أشعار القبطان' و'الكرم والريح' تخلي عن أن ينتهج أسلوبا بلاغيا وغراميا لا تشكل فيه الأسئلة عنصرا مهما وإن كان هناك تساؤل يطرح نفسه في ديوانه' استراباجاريو' وهو كم يعيش الانسان في النهاية؟
في هذا الديوان يضعنا نيرودا في قالب مختلف تماما عن كل نتاجه الشعري السابق فهو يعبر عن قلقه وعن ريبته وعن إحساسه بمحدوديته يعبر عن هذا كله من خلال الكوميديا السوداء التي تسيطر علي الديوان من أوله الي آخره
فيما أتيت أسألكم
من أكون في هذه المدينة الميتة؟
أين كنت؟
من كنت لا أفهم غير الرماد
بدءا من هذا الديوان نجد محدودية الوجود والموت هما المسيطران علي نيرودا حتي آخر قصائده فمثلا من قصيدة' صورة' من ديوان' أغان طقوسية' الذي ظهر عام1961 نجد الشاعر يتساءل:
من عاش؟
من سيعيش؟
من أحب؟
أما في' تفويض كامل' فنجده يتساءل:
في عرض الطريق أتساءل
أين توجد المدينة؟ ذهبت ولم تعد
وفي ديوان' مذكرات ايسلا نيجرا' الذي ظهر عام1964 نجده يسترجع حبه القديم لعشيقته فيقول
كيف وأين يقبع هذا الحب القديم
هل هو الآن قبر طير
أم نقطة من الكوارتز الأسود
أم قطعة من الخشب تآكلت بفعل المطر؟!
يأتي عام1968 ويمرض الكاتب بمرض يقعده عن الحركة فيكتب لنا ديوان أيدي الأيام ثم يتحفنا برائعته السيف المشتعل عام1970 ثم أحجار السماء في نفس العام وفي21 أكتوبر عام1971 يفوز نيرودا بجائزة نوبل في الأدب وعندما يعود إلي شيلي يستقبله الجميع باحتفال هائل في استاد سانتياجو ويكون علي رأس الاحتفال سلفادور الليندي الذي لقي مصرعه بعد ذلك علي يد الانقلاب الذي قاده بينوشيه وبعدها بأيام توفي نيرودا متأثرا بمرضه في23 سبتمبر1973*