ربما تكون معذورا في اعتقادك أن الشريعة الإسلامية لا تصلح لهذا العصر, لكن اهذا الاعتقاد هو اعتقاد غير سليم, لأنه مبني على أساس لا يمكن بناءً عليه أن يحكم الإنسان على هذه الشريعة, وهذا الأساس الخاطيء هو:
أولا:
أنك ترى الدول (الإسلامية) دولا متخلفة في شتى مناحي الحياة, وهذا هو الذي يجعل الكثيرين من غير هذه الدول, تحت تأثير وسائل الإعلام الموجهة لتشويه صورة الشريعة, يتسائلون: لو كانت شريعتهم صالحة حقا لما تخلفوا, وكأننا نطبق هذه الشريعة, بينما الحقيقة أن الدول الاسلامية في هذا العصر لا يطبقون هذه الشريعة أصلا, بل يحاربونها, فسبب تخلفنا الحقيقي هو أننا لا نطبق شريعة الإسلام, السبب الحقيقي وراء تخلفنا هو الفساد والظلم الذي بات يحكم مجتمعاتنا, وليس للشريعة علاقة من بعيد ولا من قريب بما يحدث لنا, وإن كان ثمة علاقة بين الشريعة وبين ما نحن فيه من تخلف فهي أن الشريعة لا تحكم في حياتنا علي مستوي الحاكم و المحكوم.
ثانيا:
أنك تنظر فترى أن بعض الذين يقومون بتطبيق الشريعة بشكل فعلي يسيئون تطبيقها, لأنهم يسيئون فهم الإسلام, ويغالون ويتشددون, فيحبسون المرأة, ويمنعون تعليمها, ويقومون بتكسير الآثار ويهملون في مظهرهم, ويظنون بذلك أن هذا هو الإسلام ويقدمون أنفسهم على أنهم يمثلون الإسلام, وتستغل بعض وسائل الإعلام هذا, فتنقل إلى العالم هذه الصور على أنها الإسلام الذي يدعوكم المسلمون إليه!
ومن ثم يحدث النفور من الإسلام ويعتقد الناس ما تعتقده أنت الآن, ويقولون: هذه هي الشريعة التي يريدون تطبيقها علينا؟ هذا هو الإسلام الذين يريدون أن نعتنقه؟ لا حاجة لنا به.
هذه هي الأسباب التي تجعل الناس تعتقد أن الشريعة غير صالحة للحكم, وقد قلت أنها أسباب غير منطقية, لماذا؟ لأنها تحكم على قوانين بشكل خاطيء, فلو أن لدي قانونا عادلا, فأخذه بعض الناس وطبقه تطبيقا جائرا, أيكون العيب في القانون أم في من ينفذه؟
متى نحكم على قانون ما بأنه صالح أو غير صالح؟ نحكم عليه عندما نجد من يطبق القانون كما هو, وحينئذ نستطيع أن نحكم على هذا القانون, هل هو صالح أم لا؟
وأعتقد أن الحكم بصلاحية الشريعة يماثل الحكم بصلاحية دين من الأديان, فمثلا إذا وجدنا رجلا مسيحيا مجرما قاتلا, فهل هذا يعطيني الحق في القول: إن المسيحية دين قتل وإجرام؟ بالطبع لا, لماذا؟ لأننا يجب أن نفرق بين المسيحية كدين وبين المسيحيين كمعتنقين لها, لأن منهم من يطبق تعاليمها ومنهم من لا يطبق هذه التعاليم, ومثل هذا الكلام يقال عن الإسلام, فإذا أردنا أن نحكم على دين ما, هل هو صالح أم لا, فعلينا أن لا نحكم عليه من خلال أتباعه فقط, بل علينا أن ننظر في هذا الدين وفي نصوصه حتى نكون موضوعيين في أحكامنا.
نحن, المسلمين, نعتقد ثلاثة أمور يفيدنا كثيرا ذكرها في هذا المقام:
أن محمدا-صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء والمرسلين, "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم, ولكن رسول الله وخاتم النبيين" (الأحزاب 40)
ومن ثم فنحن نعتقد أن الإسلام هو آخر الرسالات السماوية.
أن محمدا-صلى الله عليه وسلم- أرسل إلى الناس كافة, بينما كان الرسل قبله, يرسل كل واحد منهم إلى قومه خاصة, يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي, وذكر منهم وكان النبي يبعث في قومه خاصة, وبعثت للناس كافة"
وهذا أمر منطقي, أن يكون محمد رسولا للناس أجمعين, فقد كان كل نبي قبله يعلم أن نبيا آخر سوف يأتي بعده, ولذلك فلم تكن هناك حاجة إلى أن يرسل كل نبي إلا إلى قومه, لأن بقية الأقوام سيأتيهم أنبياء آخرون, بل إنه في بعض الفترات كان الله-عز وجل- يرسل أكثر من نبي في نفس الوقت, هذا إلى قومه وهذا إلى قوم آخرين كما حدث مع إبراهيم ولوط عليهما السلام, فقد أرسل كل واحد منهما إلى قومه.
فإذا علم ألا رسول بعد محمد, فمن الطبيعي جدا أن يرسل محمد إلى كل الناس, لأنه لا رسول بعده يبلغهم, ومن ثم فمن الضروري أن تكون رسالته صالحة لكل الأزمان التي تأتي بعده, ولكل الأقوام الذين يأتون من بعده.
وأخيرا فإني لكي أبرهن لك على صلاحية شريعة الإسلام للحكم والتطبيق في كل زمان ومكان, سوف أضرب لك أمثلة من التاريخ تثبت ما أقول:
أولا: العرب قبل الإسلام وبعده
فمن المعلوم تاريخيا أن العرب لم تقم لهم حضارة مرموقة, ولم يسمع بهم العالم إلا بعد الإسلام, وقد سادوا العالم في أقل من أربعين عاما بعد وفاة النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- ولم يكن هذا إلا في ظل تطبيق شريعة الإسلام, التي تميزت بالشمول والعدل والتسامح والتوازن والتدرج, حتى كان المواطن العادي يستطيع أن يقاضي الخليفة ويأخذ حقه منه, بل ذهب الأمر أبعد من ذلك في قصة القبطي المصري الذي ذهب إلى خليفة المسلمين عمر يشكو إليه ظلم ابن والي مصر المسلم الصحابي المعروف عمرو بن العاص, فأتى الخليفة عمر بالوالي وابنه وجعل القبطي يقتص من الاثنين, لم يكن هذا إلا في ظل شريعة الإسلام. من أجل ذلك قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قولته المشهورة: (لقد كنا أذل أمة, فأعزنا الله بالإسلام, فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله)
ثانيا: استمرار السيادة العالمية على مدار نحو ستة قرون في ظل شريعة الإسلام
حكم بنو أمية من عام 661 ميلادية إلى عام 750 ميلادية وامتدت دولتهم من إسبانيا غربا حتى تخوم الصين شرقا, ث حكم بنو العباس منذ 750 ميلادية إلى 1258 ميلادية, كل هذه السنين في ظل شريعة الإسلام, فماذا يعني هذا؟ ألا يعبر هذا عن قوة هذه الشريعة وصلاحيتها للحكم والسيادة في أجيال مختلفة وفي أماكن مختلفة, فقد حكم الإسلام أمما مختلفة في كل شيء, ومع ذلك استطاعت شريعته السمحة أن تجمعهم وتوحدهم جميعا.
ثالثا: التقدم الاقتصادي والعلمي والمعرفي في ظل الشريعة
لم يعرف المسلمون طوال تاريخهم تقدما في كل مناحي الحياة كما عرفوه في ظل تطبيقهم لشريعة الله التي هي هدى الله القائل: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" (طه 123)
كان التقدم الاقتصادي ملحوظا, حتى إنه في عهد عمر بن عبد العزيز كان يزوج من لا يقدر على تكاليف الزواج, ويقضي الدين عن المدينين, ويفرض لكل مولود راتبا من بيت مال المسلمين, وحدث يوما أن لقي عمر بن الخطاب يوما رجلا شيخا كبيرا يتكفف ويسأل الناس, قال: ما شأنك يا رجل؟ قال: أنا رجل من أهل الجزية (الضريبة) عجزت عنها, فأنا أسأل الناس لأجمعها, فقال له عمر: والله ما أنصفناك إن أكلنا شبابك ثم أضعنا كبرك وشيخوختك, ثم أسقط عنه الجزية, بل وأمر له بعطاء من بيت المال.
وفي الناحية العلمية لم يبزغ نجم الحسن بن الهيثم ولا الفارابي ولا ابن سينا ولا البيروني ولا جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا الجبرتي, وغيرهم من الأفذاذ الذين أخذ الغرب عنهم حضارته, لم يبزغ نجم هؤلاء جميعا إلا في ظل تطبيق شريعة الإسلام, أفلا يدل ذلك على صلاحية هذه الشريعة لقيادة العالم إلى الخروج من محنته الحالية.