كالعادة في كل صباح، جلس القاضي في مكانه المعتاد ليحكم بين الناس الذين لا تنتهي مشاكلهم، وقبل أن يبدأ بالنظر في القضية أو المشكلة الأولى، اندلعت زوبعة في بهو المحكمة، صراخ، عراك، بكاء، وطعن بسيوف الكلام.
فتح الباب بحركة سريعة ، ألقى نظرة، فشاهد ثلاثة أشخاص يلعبون لعبة الذئب والفريسة، لكنه لم يعرف من الذئب ومن الفريسة، رجل في العقد الرابع يرتدي بنطالاً نظيفاً وقميصاً ممزقاً بلا أزرار ويدعي أنه أب، وامرأة تصغره بعشر أو تسع سنوات ، جميلة الشكل وأنيقة الثياب، وطفل لم يتجاوز العاشرة من عمره وهو محاصر بين الرجل والمرأة والدموع في عينيه تعلن موت شخصين كانا عزيزين.
كان الرجل يشد الطفل بعنف من يده اليسرى، والمرأة تشده من يده اليمنى بعنف أكبر وتشتم الرجل، والطفل يبكي ويصرخ ولا يقدر على الهرب.
لم يستطع القاضي تحمّل المنظر فصرخ في وجوههم، هددهم بعواقب وخيمة إن لم يسكتوا، فتوقفوا عن المشاجرة والصياح، لكن نظراتهم ظلت تتعارك.
جاء وقت النظر في قضيتهم فوقف الرجل والمرأة بخشوع أمام القاضي، أما الطفل فكان لا يزال محاصراً بين الأيدي بعينيه الجاحظتين، ودموعه الحرّى، وجسده المتعب، وثيابه الممزقة، نظر إليه القاضي فرأى في ملامحه البريئة العذاب والآهات، فتذكر أطفاله الثلاثة دفعة واحدة، شعر بشيء من الحزن وغاب عبر تداعيات مؤلمة، لكنه انتبه إلى نفسه بعد لحظات ورسم على وجهه الصرامة، فهو قاض وعليه إلا يحكم بالعواطف والأحاسيس، وإنما بالأدلة والبراهين، وبما يراه بأم العين.
ـ ما الأمر؟ قال وهو ينظر إلى الرجل والمرأة.
بغتة ارتفعت أصوات الرجل والمرأة معاً وكأنها تخرج من فم واحد يشبه مدفع رشاش.
ـ اصمتا.. صاح بهما، فتصنعا البراءة وأخفضا رأسيهما.
ـ تكلم أنت يا بني، ماذا هنالك؟
ـ يا (عمو) هذا أبي.. قاطعه الرجل ولكزه في خاصرته بعنف:
ـ قل يا سيدي القاضي.
ـ اسكت ولا تتكلم إلا عندما أطلب منك، أتسمع؟
ـ نعم يا بني، أكمل.
ـ هذا أبى وهذه أمي وهما يتقاتلان ويتشاجران كل يوم، أبي يريد أن أسكن عنده في بيته مع زوجته التي لا تحب غير نفسها، فهو لا يحبني وكل همه ألا يدفع لأمي النفقة الشهرية، وأمي أيضا تريدني في بيتها مع زوجها ليس محبة بي وإنما من أجل الحصول على النفقة، وأنا ضائع بين الاثنين.
حدق القاضي في الرجل والمرأة فرأى فيهما الحقد، الجشع، الخبث، الدهاء، وحب الذات، أراد أن يقول شيئا لكن الطفل كاد أن يقع على الأرض وهو يذهب في إغفاءة ، فطلب منه الجلوس على الكرسي، وحين استرح سأله:
ـ مع من تريد أن تسكن؟
ـ ليس مع أحد.
ـ لا تريد أن تسكن لا في بيت والدك ولا في بيت أمك، فأين تريد؟ قل ولا تخف.
ـ في أي مكان ليس فيه أب ولا أم.
دهش من كلامه وشعر بأن من يقف أمامه ما هو إلا رجل عرف الحياة بكل قساوتها، فكر قليلاً وهو يهز رأسه، ثم سأله:
ـ ماذا تريد منهما؟
ـ لا أريد منهما شيئاً سوى أن يتركاني أنام في مكان لا أصوات فيه، ولا عراك، ولا شتائم حتى لو كان على الرصيف أو في الحديقة، أرجو يا "عمو" ساعدني، فأنا لا أريد طعاماً ولا ثياباً، فقط أريد أن أنام وأرتاح، أرجوك اطلب منهم ألا يقتلوا نومي.
فتح الباب بحركة سريعة ، ألقى نظرة، فشاهد ثلاثة أشخاص يلعبون لعبة الذئب والفريسة، لكنه لم يعرف من الذئب ومن الفريسة، رجل في العقد الرابع يرتدي بنطالاً نظيفاً وقميصاً ممزقاً بلا أزرار ويدعي أنه أب، وامرأة تصغره بعشر أو تسع سنوات ، جميلة الشكل وأنيقة الثياب، وطفل لم يتجاوز العاشرة من عمره وهو محاصر بين الرجل والمرأة والدموع في عينيه تعلن موت شخصين كانا عزيزين.
كان الرجل يشد الطفل بعنف من يده اليسرى، والمرأة تشده من يده اليمنى بعنف أكبر وتشتم الرجل، والطفل يبكي ويصرخ ولا يقدر على الهرب.
لم يستطع القاضي تحمّل المنظر فصرخ في وجوههم، هددهم بعواقب وخيمة إن لم يسكتوا، فتوقفوا عن المشاجرة والصياح، لكن نظراتهم ظلت تتعارك.
جاء وقت النظر في قضيتهم فوقف الرجل والمرأة بخشوع أمام القاضي، أما الطفل فكان لا يزال محاصراً بين الأيدي بعينيه الجاحظتين، ودموعه الحرّى، وجسده المتعب، وثيابه الممزقة، نظر إليه القاضي فرأى في ملامحه البريئة العذاب والآهات، فتذكر أطفاله الثلاثة دفعة واحدة، شعر بشيء من الحزن وغاب عبر تداعيات مؤلمة، لكنه انتبه إلى نفسه بعد لحظات ورسم على وجهه الصرامة، فهو قاض وعليه إلا يحكم بالعواطف والأحاسيس، وإنما بالأدلة والبراهين، وبما يراه بأم العين.
ـ ما الأمر؟ قال وهو ينظر إلى الرجل والمرأة.
بغتة ارتفعت أصوات الرجل والمرأة معاً وكأنها تخرج من فم واحد يشبه مدفع رشاش.
ـ اصمتا.. صاح بهما، فتصنعا البراءة وأخفضا رأسيهما.
ـ تكلم أنت يا بني، ماذا هنالك؟
ـ يا (عمو) هذا أبي.. قاطعه الرجل ولكزه في خاصرته بعنف:
ـ قل يا سيدي القاضي.
ـ اسكت ولا تتكلم إلا عندما أطلب منك، أتسمع؟
ـ نعم يا بني، أكمل.
ـ هذا أبى وهذه أمي وهما يتقاتلان ويتشاجران كل يوم، أبي يريد أن أسكن عنده في بيته مع زوجته التي لا تحب غير نفسها، فهو لا يحبني وكل همه ألا يدفع لأمي النفقة الشهرية، وأمي أيضا تريدني في بيتها مع زوجها ليس محبة بي وإنما من أجل الحصول على النفقة، وأنا ضائع بين الاثنين.
حدق القاضي في الرجل والمرأة فرأى فيهما الحقد، الجشع، الخبث، الدهاء، وحب الذات، أراد أن يقول شيئا لكن الطفل كاد أن يقع على الأرض وهو يذهب في إغفاءة ، فطلب منه الجلوس على الكرسي، وحين استرح سأله:
ـ مع من تريد أن تسكن؟
ـ ليس مع أحد.
ـ لا تريد أن تسكن لا في بيت والدك ولا في بيت أمك، فأين تريد؟ قل ولا تخف.
ـ في أي مكان ليس فيه أب ولا أم.
دهش من كلامه وشعر بأن من يقف أمامه ما هو إلا رجل عرف الحياة بكل قساوتها، فكر قليلاً وهو يهز رأسه، ثم سأله:
ـ ماذا تريد منهما؟
ـ لا أريد منهما شيئاً سوى أن يتركاني أنام في مكان لا أصوات فيه، ولا عراك، ولا شتائم حتى لو كان على الرصيف أو في الحديقة، أرجو يا "عمو" ساعدني، فأنا لا أريد طعاماً ولا ثياباً، فقط أريد أن أنام وأرتاح، أرجوك اطلب منهم ألا يقتلوا نومي.