[size=16] حكي حشاشين
محمد علي فريكة اسم مستعار لشخص حقيقي أعرفه منذ أكثر من أربعين سنة، وهو من أعز أصدقائي، وقد كتبت عنه، قبل هذا، عدداً كبيراً من القصص والحكايات، وهو يعرف أنني أكتب عنه، ولا يزعل، ولكنه يقول لي كلما التقاني:
- إذا دفع لك جماعة الجرايد والراديو والتلفزيون ثمن الحكايات التي تكتبها عني، فاحسب حسابي بكم ليرة، لأني، متلما بتعرف، أعوي من شدة الفقر!
ومع أن معظم أهل القرية التي يعيش فيها محمد علي فريكة، ولنصطلح على تسميتها "الفقوسة"، يتمتعون بحس السخرية، إلا أن محمد علي يُعْتَبَرُ نجم السخرية والكوميديا الأوحد فيها، فالقادم إلى الفقوسة، ليلاً، قبل عصر الاتصالات والموبايلات، إذا أراد أن يعرف أين يسهر محمد علي وشلته ما عليه إلا أن يرهف السمع، ليلتقط صوت الضحك الجماعي الذي يشق عنان السماء، ثم يتتبَّعُ صوت الضحك حتى يصل إليه!
قلت له ذات مرة:
-محمد علي، بودي أسألك سؤال، وأنا أعرف أنك لا تكذب، وإذا كذبت على كل الناس لا تكذب علي أنا، هل صحيح أنك حشاش؟!
وقبل أن يعطيني أي جواب تابعت أقول له:
- بصراحة أنا أعرف أن الأشخاص الذين يمتلكون ناصية الفكاهة، يقال إنهم "حشاشون" ويقال عن الحكي الذي يبلغ مستوى عالياً من الهزل إنه "حكي حشاشين".
قال: أولاً، برأيي أنه ليس من الضروري أن يكون الشخص الظريف حشاشاً، فأنا، منذ وعيت على الحياة، وكلما كنت قاعداً في مجلس وحكيت كلمتين، ومن دون تحشيش طبعاً، أرى الناس ينفلتون بالضحك. وثانياً، سأحلف لك برحمة جدتي صبحة، أنني لم أسع للتحشيش قط، وحينما حششت، ذات مرة، لم أكن أعرف أنني أحشش.
قلت: يعني حششت غصباً عنك؟
قال: بل حششت بالغلط.
ثم حكى لي كيف أن من أحلامه المبكرة في الحياة أن يذهب إلى لبنان، ولو لمدة يومين. ولكن أنى لرجل منحوس ومفلس و(زملوطي) مثله أن يذهب إلى لبنان؟! فإذا كان الذهاب إليها يكلف ألف ليرة سورية فقط، فإن محمد علي طوال حياته لم يوفر ألف ليرة سورية، لذلك فقد تنازل عن هذا الحلم مثلما تنازل من قبل عن مئات الأحلام، وعلى رأسها أن تكون له زوجة جميلة وفهيمة وكلامها لا يشبه اللطم بالبوكس على المناخير!
بعد زمن طويل جداً، وبالتحديد حينما بلغ محمد علي الثامنة والأربعين من عمره، وبعد أن تنقل في مهن ومصالح كثيرة، عهد إليه صديقه "أبو قدور" بقيادة سيارته الميكروباص. وبعد أن عمل سائقاً للميكروباص ثلاث سنوات دون انقطاع، استوقفه فجأة رب عائلة لبنانية كانت في زيارة لعائلة سورية، وطلب منه أن يوصله إلى لبنان.
محمد علي، من شدة فرحه، لم "يفاصل" الرجل على الأجر.. ومع أنه لا يخطب، ولا يحب الخطابة، فقد وجد نفسه يخطب على اللبناني: حدثه عن الأخوة بين السوريين واللبنانيين، والجيرة، والتاريخ المشترك، وعن "سوا ربينا"، وزاده من القصيد بيتاً إذ قال له: وكيفما كانت الأمور فتحت إسلام في بعضنا.
فلما صحح له اللبناني هذه المعلومة قائلاً له إنه مسيحي، شرع محمد علي يتحدث عن التعايش الإسلامي المسيحي عبر العصور، وذكر له بعض الآيات والأحاديث النبوية التي تؤكد على ذلك.. دواليك حتى ضجر منه اللبناني وقال له:
- خلصنا يا عمي، إذا بدك توصلنا خلينا نطلع إلى السيارة!
فقال: اطلعوا.
وطلعوا. وحينما وصلت السيارة إلى الحدود أعطيت الهويات الشخصية إلى موظف الأمن العام الذي دخل إلى المكتب قليلاً ثم عاد، وأعاد هويات الأشقاء اللبنانيين إليهم، وقال:
- بإمكانكم العبور، أما أنت يا سيد محمد علي فريكة فما عليك إلا أن تصف سيارتك في المرآب وتلحقني إلى المكتب.
واتضح أن اسم (محمد علي فريكة) موجود في قائمة المطلوبين لدى الأمن العام، لذلك اقتيد إلى نظارة التوقيف، حيث ضيفه أحد الموقوفين سيكارة، دخنها محمد علي فأحس برأسه يكبر مثل "الشمبرير" حينما يُنفخ على الكهرباء، وعرف من بعد أن السيكارة كانت "حشيش"!
[/size]
محمد علي فريكة اسم مستعار لشخص حقيقي أعرفه منذ أكثر من أربعين سنة، وهو من أعز أصدقائي، وقد كتبت عنه، قبل هذا، عدداً كبيراً من القصص والحكايات، وهو يعرف أنني أكتب عنه، ولا يزعل، ولكنه يقول لي كلما التقاني:
- إذا دفع لك جماعة الجرايد والراديو والتلفزيون ثمن الحكايات التي تكتبها عني، فاحسب حسابي بكم ليرة، لأني، متلما بتعرف، أعوي من شدة الفقر!
ومع أن معظم أهل القرية التي يعيش فيها محمد علي فريكة، ولنصطلح على تسميتها "الفقوسة"، يتمتعون بحس السخرية، إلا أن محمد علي يُعْتَبَرُ نجم السخرية والكوميديا الأوحد فيها، فالقادم إلى الفقوسة، ليلاً، قبل عصر الاتصالات والموبايلات، إذا أراد أن يعرف أين يسهر محمد علي وشلته ما عليه إلا أن يرهف السمع، ليلتقط صوت الضحك الجماعي الذي يشق عنان السماء، ثم يتتبَّعُ صوت الضحك حتى يصل إليه!
قلت له ذات مرة:
-محمد علي، بودي أسألك سؤال، وأنا أعرف أنك لا تكذب، وإذا كذبت على كل الناس لا تكذب علي أنا، هل صحيح أنك حشاش؟!
وقبل أن يعطيني أي جواب تابعت أقول له:
- بصراحة أنا أعرف أن الأشخاص الذين يمتلكون ناصية الفكاهة، يقال إنهم "حشاشون" ويقال عن الحكي الذي يبلغ مستوى عالياً من الهزل إنه "حكي حشاشين".
قال: أولاً، برأيي أنه ليس من الضروري أن يكون الشخص الظريف حشاشاً، فأنا، منذ وعيت على الحياة، وكلما كنت قاعداً في مجلس وحكيت كلمتين، ومن دون تحشيش طبعاً، أرى الناس ينفلتون بالضحك. وثانياً، سأحلف لك برحمة جدتي صبحة، أنني لم أسع للتحشيش قط، وحينما حششت، ذات مرة، لم أكن أعرف أنني أحشش.
قلت: يعني حششت غصباً عنك؟
قال: بل حششت بالغلط.
ثم حكى لي كيف أن من أحلامه المبكرة في الحياة أن يذهب إلى لبنان، ولو لمدة يومين. ولكن أنى لرجل منحوس ومفلس و(زملوطي) مثله أن يذهب إلى لبنان؟! فإذا كان الذهاب إليها يكلف ألف ليرة سورية فقط، فإن محمد علي طوال حياته لم يوفر ألف ليرة سورية، لذلك فقد تنازل عن هذا الحلم مثلما تنازل من قبل عن مئات الأحلام، وعلى رأسها أن تكون له زوجة جميلة وفهيمة وكلامها لا يشبه اللطم بالبوكس على المناخير!
بعد زمن طويل جداً، وبالتحديد حينما بلغ محمد علي الثامنة والأربعين من عمره، وبعد أن تنقل في مهن ومصالح كثيرة، عهد إليه صديقه "أبو قدور" بقيادة سيارته الميكروباص. وبعد أن عمل سائقاً للميكروباص ثلاث سنوات دون انقطاع، استوقفه فجأة رب عائلة لبنانية كانت في زيارة لعائلة سورية، وطلب منه أن يوصله إلى لبنان.
محمد علي، من شدة فرحه، لم "يفاصل" الرجل على الأجر.. ومع أنه لا يخطب، ولا يحب الخطابة، فقد وجد نفسه يخطب على اللبناني: حدثه عن الأخوة بين السوريين واللبنانيين، والجيرة، والتاريخ المشترك، وعن "سوا ربينا"، وزاده من القصيد بيتاً إذ قال له: وكيفما كانت الأمور فتحت إسلام في بعضنا.
فلما صحح له اللبناني هذه المعلومة قائلاً له إنه مسيحي، شرع محمد علي يتحدث عن التعايش الإسلامي المسيحي عبر العصور، وذكر له بعض الآيات والأحاديث النبوية التي تؤكد على ذلك.. دواليك حتى ضجر منه اللبناني وقال له:
- خلصنا يا عمي، إذا بدك توصلنا خلينا نطلع إلى السيارة!
فقال: اطلعوا.
وطلعوا. وحينما وصلت السيارة إلى الحدود أعطيت الهويات الشخصية إلى موظف الأمن العام الذي دخل إلى المكتب قليلاً ثم عاد، وأعاد هويات الأشقاء اللبنانيين إليهم، وقال:
- بإمكانكم العبور، أما أنت يا سيد محمد علي فريكة فما عليك إلا أن تصف سيارتك في المرآب وتلحقني إلى المكتب.
واتضح أن اسم (محمد علي فريكة) موجود في قائمة المطلوبين لدى الأمن العام، لذلك اقتيد إلى نظارة التوقيف، حيث ضيفه أحد الموقوفين سيكارة، دخنها محمد علي فأحس برأسه يكبر مثل "الشمبرير" حينما يُنفخ على الكهرباء، وعرف من بعد أن السيكارة كانت "حشيش"!
[/size]