سيرة الحب- الجزء الحادي عشر
34- أبو الجود ومشكلة الدوام
كان صديقنا أبو الجود في مطلع شبابه يتمتع بقدر كبير من الوسامة، فهو طويل وأشقر بعينين خضراوين. وكان يحاول أن يفلسف هذا الوضع فيقول إن هذه الصفات الجمالية تناسب ابن رأسمالي غني يدخل إلى مزرعة أبيه بالسيارة "الفولفو" فيركض لاستقباله رجال أبيه ويفتحون له الأبواب التي يسميها أهل مصر (البيبان) وينحنون أمامه طاقين باعتبار أنه ابن المعلم.
وأما هو، وعلى الرغم من هذه المواصفات، فمفلس على الحديدة، وكل الناس يمشون في الأزقة بخط مستقيم ودون خوف أو وجل، إلا هو فكان يذهب من مقر وظيفته إلى منزله بطرق ملتوية، أو يتسلق الجدار ثم ينزل إلى البيت قفزاً كالمظليين، بسبب الكمائن التي ينصبها الدائنون (الكباسون) له!
وكان أكثر شيء يغيظه في تلك الأيام هي أن يستوقفه رجل من أهل الحارة ويوجه إليه السؤال التقليدي: (ليش ما عم تتزوج؟). فكأنهم لا يعرفون أن عملية الزواج، إذا كان والد العروس وأمهما متحضرين تكلف ثلاثة آلاف ليرة سورية، وإذا كانا من النوع العادي المتوسط فإن الزيجة تكلف سبعة إلى عشرة آلاف ليرة سورية، وأما المتشددون الذين يؤمنون بأهمية المهر في الحفاظ على المظاهر فلا يمكن أن تقل تكلفتها عن خمسة عشر ألف ليرة سورية.
وذات مرة كان أبو الجود قادماً من عمق الزقاق فلاقاه صاحبنا أبو عبوش بيدين مفتوحتين على مداهما. تلقاه بالأحضان وهو يقول له:
- ما شاء الله كان يا أبو الجود. اللهم صل على أشرف العرب والعجم سيدي ومولاي أحمد محمد. ما هذا الحظ الذي يفلق الصخر الذي تمتلكه؟
دهش أبو الجود إلى أقصى حدود الدهشة وقال:
- الله يسامحك يا عمي أبو عبوش. أأنا محظوظ؟!
قال: أي نعم محظوظ، وأنا حتى الآن لا أعرف في أي جامع صليت وما هي الحسنات التي قدمتها لوجه الله تعالى حتى كافأك بهذا الحظ العجيب. أخي، اسمع ما سأقوله لك، ولئلا نطيل الشرح، فأنا لا أحب الحكي الكثير والعلاك! أنا وجدت لك عروساً، يا مرحوم البي، هي آية من أيات الله في الحسن والجمال، لا ولدت النساء ولا قَمَّطَتْ الدايات مثلها، طول ونحافة وشعر سابل ونازل وراء ظهرها حتى تتحد نهايته مع نهاية عظم العصعص، عليها بياض لا يشبه بياض الحلاوة الكشيشية وإنما بياض زهر الفل، وأصابع مثل نبات "الزرنجف" إذا عقدتها تنعقد دون أن تنكسر، والخصر يا عيني على الخصر، الله وكيلك أنا قلبي انحرق على عمري الذي أمضيته مع خالتك أم عبوش وهي عديمة الخصر وعديمة الرقبة، وفوق هذا، لا أكتمك يا عين عمك، يا أبا الجود، أم عبوش شعرها خفيف، وعقلها كذلك خفيف.. و..
لاحظ أبو الجود أن أبا عبوش قد خرج عن الموضوع، كعادته، فبعد أن كان يكيل المديح للعروس بدأ يسترسل في تعداد الصفات القبيحة التي تمتلكها عقيلته أم عبوش، فقاطعه قائلاً له:
- المهم عمي أبو عبوش، خلنا عند العروس، وقل لي، هذه الامرأة ذات المواصفات الأسطورية لمن اخترتها؟
قال أبو عبوش: اخترتها لك.
قال أبو الجود: كأنك لا تعرف أن الفقر- على قولة أهل حربنوش- ناصب حولي دبكة؟!
ضحك أبو عبوش ضحكة جلبت أنظار المارين في الزقاق إليهما وقال:
- لا يوجد كبير أو صغير أو مقمط في السرير أو صوص ابن يوم في هذا البلد لا يعرف أن الفقر ناصب حولك دبكة ويعزف لك على الطنبورة. ولكنك محظوظ كما قلت لك، فالعروس التي وجدتها لك لا تريد منك أبيض ولا أحمر ولا أصفر.. الشيء الوحيد الذي تطلبه منك هو هذه الشبوبية، اللهم صلي على النبي! وشرطها الأساسي أن تبقى معها في غرفة النوم ليلاً نهاراً.
ارتدى أبو الجود في هذه اللحظة قناع العبوس والجد، وقال لأبي عبوش:
- اعذرني يا عمي أبو عبوش، أنا غير قادر على تحقيق هذا الأمر.
دهش أبو عبوش وقال: عجيبة. كيف تعلن عجزك عن هذا الأمر وأنت شاب إذا ربطتك بشجرة توت كبيرة وأجفلتك تقتلعها بنترة واحدة؟
قال أبو الجود: لو كانت القصة قصة شجرة توت لهانت، ولكنت اقتلعتها من دون أن تكلف خاطرك وتجفلني! يا عمي أبا عبوش افهم علي: لو كان شرطها أن أبقى معها في الليل فقط لهان الأمر، ولكن في النهار عندي دوام، فلو سألني المدير مثلاً (لماذا لا تداوم؟) ماذا أقول له؟!
35- الوالدة تحت الشمسية
بعض الذين كانوا يسألون أبا الجود عن سبب تأخره في الزواج كانوا لا يكتفون بالسؤال، بل ينطلقون منه إلى ذكر محاسن الزواج وضرورته لأجل الحفاظ على هذا النسل العظيم! وحصانة النفس، واتباع السلوك القويم في الحياة، وذم العزوبية باعتبارها مفرخة للذنوب والآثام والانحرافات الأخلاقية. ولم يكن أي منهم يتطرق إلى السبب الحقيقي، ألا وهو الإفلاس المزمن العضال!
ذات مرة التقاه صاحبنا أبو عبوش، وقال له من دون مقدمات:
- وجدت لك يا أبا الجود عروساً رائعة اسمها نوال، إنها لك، كما يقولون في التشابيه، حفر وتنزيل. يا رجل! من دون يمين إذا الواحد وضع في ذهنه أجمل المواصفات المتكاملة للعروس، وطلبها من الله كلها دفعة واحدة، فلا بد أن تجتمع هذه المواصفات في نوال. وحتى من ناحية العمر مناسبة لك، فأنت الآن عمرك 33 سنة، وهي عمرها 29.
قال أبو الجود:
ما دامت فيها كل هذه المواصفات عالية الجودة لماذا تركها أصحاب العلاقة، أعني الشبان الأثرياء القادرين على وضعها في كفة الميزان وفي الكفة الأخرى ليرات الذهب، عازبةً حتى الآن؟
قال أبو عبوش: بصراحة هي ليست عازبة، بل مطلقة! وأنا، الله يشهد على راسي، أعرف أن الحق في الطلاق على زوجها، الله لا يوفقه ولا يوجه له الخير! بعدما تزوجها بأيام بدأ يظهر على حقيقته فهو سكير وقمارجي ولا يعود من سهرته إلى البيت قبل جهجهة الضوء، وفوق هذا كله عنده ضعف من ناحية الفحولة. تحملته نوال فترة طويلة، بعدها وضعت (بوز كندرتها) في ظهره وقالت له: افرقني برائحة طيبة!
قال أبو الجود: حلو. يعني تريد أن تزوجها لي الآن على عيبها؟!
زعل أبو عبوش بشدة، وقال:
- على عيبها! لا يا أبو الجود، هذه ما هي حلوة منك! أصلاً أنت لازم تسجد سجدة طويلة لوجه الله تعالى إذا هي وافقت عليك، ولا أظنها ستوافق عليك إلا لأنك إنسان عاقل ومهذب ومستقيم ولا يوجد في سلوكك (غبرتي كلستي)!
قال أبو الجود محاولاً إنهاء الحوار:
- طيب عمي أبو عبوش، إذا صادفتها فاتحها بالموضوع نيابة عني، وبعدها لكل حادث حديث.
ضحك أبو عبوش ضحكة ترافقت مع خرخرة صدره المتخرب من فرط تدخين التتن العربي وقال له:
- فاتحتها بالموضوع، وأخذت موافقتها، وما بقي إلا أن تبعث الست الوالدة لتطلبها لك بشكل رسمي. ولكن انتبه، ترى أهلها جماعة أكابر..
قال أبو الجود: وماذا يعني هذا؟
قال: يعني الكثير. قل لي أولاً، ماذا ترتدي والدتك حينما تكون خارج البيت؟
قال أبو الجود: مثل كل نسوان إدلب، ترتدي ملحفة خراطة، وتضع على رأسها الغطاء الشرعي.
امتعض أبو عبوش من هذا الكلام وقال:
- قلت لك إن الجماعة أكابر. أخي، أنت تعرفني لا أحب الحكي الكثير والأخذ والعطا، بالعربي الفصيح، إذا كنت تريد أن يوافق عليك أهل نوال بسرعة، ومن دون تردد أو تذمر، يجب أن ترتدي والدتك ثياباً تناسب مقامهم!
استطرف أبو الجود هذه الفكرة فقال مبطناً الجد بالتهكم:
- طالما أنك يا عمي أبو عبوش كعهدي بك لا تحب العلاك والرغي والثرثرة والحكي الفاضي! قل لي باختصار، ما هي الأزياء التي ينبغي على أمي ارتداءها وتكون مناسبة لمقام هؤلاء الناس الأكابر؟
قال: ترتدي ثوباً محتشماً، وفوقه بالطو فرو أو عادي، وبدلاً من الغطاء الشرعي تضع على رأسها "كاسكيت" يغطي شعرها، وفي الوقت نفسه يعطيها جمالية خاصة، ولا بأس أن تلبس في قدميها (سكربينة) بكعب عال، وحينما تمشي، وبما أن الدنيا صيف تحمل في يدها شمسية بيضا، و..
لم يستطع أبو عبوش أن يكمل حديثه عن مكونات اللباس العصري الذي يقترحه لأجل والدة السيدة أم جواد، ذلك أنا أبا الجود انفلت بالضحك، واستمر يضحك حتى كاد أن يقع من طوله، وحينما استفسر منه أبو عبوش عن سبب ضحكه قال أبو الجود:
- لا يوجد أي سبب، الله وكيلك، كل ما في الموضوع أنني تخيلت والدتي وهي ترتدي هذه الثياب.. كه كه كهي، هأ هأ هأ.. شي يضحك فعلاً!
36- أبو شعلان والإيكوغراف
أشرقت الشمس الشباطية على الحارة القديمة ذات الزواريب المتعرجة التي يقطنها بطل سيرتنا أبو الجود، فخرج أهل الحارة ليتشمسوا على البيدر. وكان خالي أبو شعلان المجنون العصابي قد مل هو الآخر من البرد والمطر والصقيع، وشعر بالدفء فتخلى عن بعض ثيابه المكونة من شرائح بالات القطن المصنوعة من الخيش، والأعدال المصنوعة من (الجنفاص)، وجلس بين الرجال مفرشخاً ساقيه، وشرع يقص عليهم قصصاً وسوالف غير مترابطة عن صديقه بعليلو الذي عمر بيتاً في رأس الجبل وهو الآن يرعى الجدايا ويصيح المواويل والعتابا والفراقيات والسواحلي، وصديقه الآخر (أبو دنكورة) الذي اشترى ستة دكاكين في ساحة الخضار، بمليون ليرة، مع أن أبو دنكورة في الواقع لا يأكل لقمة واحدة إذا لم يتعطف عليه الناس بفرنك أو فرنكين! وعن صديقه الآخر راتب الهجي الذي كان يلعب مع رفاقه بالعصّمينا ونطَّ نطة عالمية فوقع على رأسه وأخذوه إلى المستشفى ليجدوا أنه فارق الحياة، فأقيمت له جنازة حافلة وزع فيها الخبز مع الحلاوة الكشيشية على المدعوين، وكان نصيبه أربعة أرغفة محشوة بالحلاوة تناولها خلال وجبة واحدة!
وبينما كان الخال أبو شعلان مسترسلاً في عرض أكاذيبه وخرابيطه على الرجال المتشمسين إذ مر بهم شاب أزعر، التفت نحوه وقال له:
- ما رأيك يا خالي أبو شعلان أن نزوجك ابنة خالتي هدلا الهبلا؟!
وكانت هذه العبارة تغيظ الخال أبا شعلان إلى أبعد الحدود، فما كان منه إلا أن حمل حجرة كبيرة وكالَ بها الشاب الذي سارع إلى الهرب والاختفاء، فاصطدمت الحجرة بباب أحد المنازل فهشمته، ووقتها أحس أبو شعلان بالإحباط فسارع إلى افتعال مشكلة مع الرجال المتشمسين، عسى أن يتصدى له أحدهم فيفرغ جام غضبه عليه. التفت نحو الرجال وقال لهم:
- ولاك! أنتم كلكم أوباش وسرسرية! وعيب على صاحب أكبر شنب فيكم أن يعد نفسه بين الرجال!
ردوا عليه بعبارات متداخلة تقول:
- معك حق ياخالي.
- أي نعم نحن أوباش.
- شواربنا لا قيمة لها.
- نحن لسنا من الرجال.
- نعم، نحن سرسرية..
.. إلخ.
لم يوفق أبو شعلان إذن بافتعال مشكلة مع الرجال، فأطرق برأسه إلى الأسفل وشرع ينفح مثل الحية البالعة!
أبو شعلان، بحسب ما حكى لي بطل سيرتنا أبو الجود، لم يكن يمارس أي نوع من أنواع العبادات الدينية، وفي الوقت نفسه لم يكن يفرق بين طهارة ونجاسة، وقلما يستحم، ومع ذلك فقد كان أهل البلدة يعتقدون بأنه وأمثاله من المهابيل لهم كرامات عند الله تعالى، وأنه يستجيب لأدعيتهم وتوقعاتهم، لذلك كان يأتي إليه أصحاب الآلام العظمية والعضلية ويطلبون منه أن يُكَـبِّسهم بيديه المباركتين، وما هي إلا بضع تكبيسات حتى يزول الألم ويرتاح الجسم المتوتر الموجوع،.. وتأتي إليه المرأة الحامل وتسأله عن جنس مولودها، فيقول لها: بودك تولدي صبي! فتفرح المرأة وتذهب إلى بيتها كاسبة غانمة، فإذا صح توقعه ازدادت قناعتها وقناعة الناس في البلدة بأنه يعرف جنس المواليد أكثر من الإيكوغراف الذي تم اختراعه في زمن لاحق! وإذا خاب توقعه تقول المرأة في سرها:
- يضرب في شكله! شقفة مجنون مهستر مأنشح؟!
وكان تلاميذ المدارس يمرون بالخال أبي شعلان ويسألونه عما إذا كانوا سينجحون في صفوفهم وكان يرد عليهم بعبارة واحدة هي: انبسط، بودك تنجح إلى الصف الثاني!
إذن، وبينما كان أبو شعلان غاضباً، محبطاً، مستعداً للشجار مع ذباب وجهه، إذ خطرت من آخر الزقاق امرأة تعاني من آلام في مفاصلها بدليل أنها تمشي حنجلة، توقفت أمامه وقالت له:
- جسمي مكسر يا خالي أبو شعلان، الله يرضى عليك كبسني!
فعاجلها بالقول وكأنه وجد ضالته التي يبحث عنها:
- اذهبي من هنا يا بادعة! الله يلعن كلبك!
شهقت المرأة حينما سمعت من أبي شعلان هذا الجواب غير المتوقع وقالت له:
- الله يهدَّك يا أبو شعلان المجنون. الله يموتك ويخلص هذه الحارة منك.
فحمل حجرة كبيرة وكالها بها، ولولا أن نزل ستر الله على الحارة في تلك الهنيهة لكان أبو شعلان ارتكب جريمة قتل مروعة!
34- أبو الجود ومشكلة الدوام
كان صديقنا أبو الجود في مطلع شبابه يتمتع بقدر كبير من الوسامة، فهو طويل وأشقر بعينين خضراوين. وكان يحاول أن يفلسف هذا الوضع فيقول إن هذه الصفات الجمالية تناسب ابن رأسمالي غني يدخل إلى مزرعة أبيه بالسيارة "الفولفو" فيركض لاستقباله رجال أبيه ويفتحون له الأبواب التي يسميها أهل مصر (البيبان) وينحنون أمامه طاقين باعتبار أنه ابن المعلم.
وأما هو، وعلى الرغم من هذه المواصفات، فمفلس على الحديدة، وكل الناس يمشون في الأزقة بخط مستقيم ودون خوف أو وجل، إلا هو فكان يذهب من مقر وظيفته إلى منزله بطرق ملتوية، أو يتسلق الجدار ثم ينزل إلى البيت قفزاً كالمظليين، بسبب الكمائن التي ينصبها الدائنون (الكباسون) له!
وكان أكثر شيء يغيظه في تلك الأيام هي أن يستوقفه رجل من أهل الحارة ويوجه إليه السؤال التقليدي: (ليش ما عم تتزوج؟). فكأنهم لا يعرفون أن عملية الزواج، إذا كان والد العروس وأمهما متحضرين تكلف ثلاثة آلاف ليرة سورية، وإذا كانا من النوع العادي المتوسط فإن الزيجة تكلف سبعة إلى عشرة آلاف ليرة سورية، وأما المتشددون الذين يؤمنون بأهمية المهر في الحفاظ على المظاهر فلا يمكن أن تقل تكلفتها عن خمسة عشر ألف ليرة سورية.
وذات مرة كان أبو الجود قادماً من عمق الزقاق فلاقاه صاحبنا أبو عبوش بيدين مفتوحتين على مداهما. تلقاه بالأحضان وهو يقول له:
- ما شاء الله كان يا أبو الجود. اللهم صل على أشرف العرب والعجم سيدي ومولاي أحمد محمد. ما هذا الحظ الذي يفلق الصخر الذي تمتلكه؟
دهش أبو الجود إلى أقصى حدود الدهشة وقال:
- الله يسامحك يا عمي أبو عبوش. أأنا محظوظ؟!
قال: أي نعم محظوظ، وأنا حتى الآن لا أعرف في أي جامع صليت وما هي الحسنات التي قدمتها لوجه الله تعالى حتى كافأك بهذا الحظ العجيب. أخي، اسمع ما سأقوله لك، ولئلا نطيل الشرح، فأنا لا أحب الحكي الكثير والعلاك! أنا وجدت لك عروساً، يا مرحوم البي، هي آية من أيات الله في الحسن والجمال، لا ولدت النساء ولا قَمَّطَتْ الدايات مثلها، طول ونحافة وشعر سابل ونازل وراء ظهرها حتى تتحد نهايته مع نهاية عظم العصعص، عليها بياض لا يشبه بياض الحلاوة الكشيشية وإنما بياض زهر الفل، وأصابع مثل نبات "الزرنجف" إذا عقدتها تنعقد دون أن تنكسر، والخصر يا عيني على الخصر، الله وكيلك أنا قلبي انحرق على عمري الذي أمضيته مع خالتك أم عبوش وهي عديمة الخصر وعديمة الرقبة، وفوق هذا، لا أكتمك يا عين عمك، يا أبا الجود، أم عبوش شعرها خفيف، وعقلها كذلك خفيف.. و..
لاحظ أبو الجود أن أبا عبوش قد خرج عن الموضوع، كعادته، فبعد أن كان يكيل المديح للعروس بدأ يسترسل في تعداد الصفات القبيحة التي تمتلكها عقيلته أم عبوش، فقاطعه قائلاً له:
- المهم عمي أبو عبوش، خلنا عند العروس، وقل لي، هذه الامرأة ذات المواصفات الأسطورية لمن اخترتها؟
قال أبو عبوش: اخترتها لك.
قال أبو الجود: كأنك لا تعرف أن الفقر- على قولة أهل حربنوش- ناصب حولي دبكة؟!
ضحك أبو عبوش ضحكة جلبت أنظار المارين في الزقاق إليهما وقال:
- لا يوجد كبير أو صغير أو مقمط في السرير أو صوص ابن يوم في هذا البلد لا يعرف أن الفقر ناصب حولك دبكة ويعزف لك على الطنبورة. ولكنك محظوظ كما قلت لك، فالعروس التي وجدتها لك لا تريد منك أبيض ولا أحمر ولا أصفر.. الشيء الوحيد الذي تطلبه منك هو هذه الشبوبية، اللهم صلي على النبي! وشرطها الأساسي أن تبقى معها في غرفة النوم ليلاً نهاراً.
ارتدى أبو الجود في هذه اللحظة قناع العبوس والجد، وقال لأبي عبوش:
- اعذرني يا عمي أبو عبوش، أنا غير قادر على تحقيق هذا الأمر.
دهش أبو عبوش وقال: عجيبة. كيف تعلن عجزك عن هذا الأمر وأنت شاب إذا ربطتك بشجرة توت كبيرة وأجفلتك تقتلعها بنترة واحدة؟
قال أبو الجود: لو كانت القصة قصة شجرة توت لهانت، ولكنت اقتلعتها من دون أن تكلف خاطرك وتجفلني! يا عمي أبا عبوش افهم علي: لو كان شرطها أن أبقى معها في الليل فقط لهان الأمر، ولكن في النهار عندي دوام، فلو سألني المدير مثلاً (لماذا لا تداوم؟) ماذا أقول له؟!
35- الوالدة تحت الشمسية
بعض الذين كانوا يسألون أبا الجود عن سبب تأخره في الزواج كانوا لا يكتفون بالسؤال، بل ينطلقون منه إلى ذكر محاسن الزواج وضرورته لأجل الحفاظ على هذا النسل العظيم! وحصانة النفس، واتباع السلوك القويم في الحياة، وذم العزوبية باعتبارها مفرخة للذنوب والآثام والانحرافات الأخلاقية. ولم يكن أي منهم يتطرق إلى السبب الحقيقي، ألا وهو الإفلاس المزمن العضال!
ذات مرة التقاه صاحبنا أبو عبوش، وقال له من دون مقدمات:
- وجدت لك يا أبا الجود عروساً رائعة اسمها نوال، إنها لك، كما يقولون في التشابيه، حفر وتنزيل. يا رجل! من دون يمين إذا الواحد وضع في ذهنه أجمل المواصفات المتكاملة للعروس، وطلبها من الله كلها دفعة واحدة، فلا بد أن تجتمع هذه المواصفات في نوال. وحتى من ناحية العمر مناسبة لك، فأنت الآن عمرك 33 سنة، وهي عمرها 29.
قال أبو الجود:
ما دامت فيها كل هذه المواصفات عالية الجودة لماذا تركها أصحاب العلاقة، أعني الشبان الأثرياء القادرين على وضعها في كفة الميزان وفي الكفة الأخرى ليرات الذهب، عازبةً حتى الآن؟
قال أبو عبوش: بصراحة هي ليست عازبة، بل مطلقة! وأنا، الله يشهد على راسي، أعرف أن الحق في الطلاق على زوجها، الله لا يوفقه ولا يوجه له الخير! بعدما تزوجها بأيام بدأ يظهر على حقيقته فهو سكير وقمارجي ولا يعود من سهرته إلى البيت قبل جهجهة الضوء، وفوق هذا كله عنده ضعف من ناحية الفحولة. تحملته نوال فترة طويلة، بعدها وضعت (بوز كندرتها) في ظهره وقالت له: افرقني برائحة طيبة!
قال أبو الجود: حلو. يعني تريد أن تزوجها لي الآن على عيبها؟!
زعل أبو عبوش بشدة، وقال:
- على عيبها! لا يا أبو الجود، هذه ما هي حلوة منك! أصلاً أنت لازم تسجد سجدة طويلة لوجه الله تعالى إذا هي وافقت عليك، ولا أظنها ستوافق عليك إلا لأنك إنسان عاقل ومهذب ومستقيم ولا يوجد في سلوكك (غبرتي كلستي)!
قال أبو الجود محاولاً إنهاء الحوار:
- طيب عمي أبو عبوش، إذا صادفتها فاتحها بالموضوع نيابة عني، وبعدها لكل حادث حديث.
ضحك أبو عبوش ضحكة ترافقت مع خرخرة صدره المتخرب من فرط تدخين التتن العربي وقال له:
- فاتحتها بالموضوع، وأخذت موافقتها، وما بقي إلا أن تبعث الست الوالدة لتطلبها لك بشكل رسمي. ولكن انتبه، ترى أهلها جماعة أكابر..
قال أبو الجود: وماذا يعني هذا؟
قال: يعني الكثير. قل لي أولاً، ماذا ترتدي والدتك حينما تكون خارج البيت؟
قال أبو الجود: مثل كل نسوان إدلب، ترتدي ملحفة خراطة، وتضع على رأسها الغطاء الشرعي.
امتعض أبو عبوش من هذا الكلام وقال:
- قلت لك إن الجماعة أكابر. أخي، أنت تعرفني لا أحب الحكي الكثير والأخذ والعطا، بالعربي الفصيح، إذا كنت تريد أن يوافق عليك أهل نوال بسرعة، ومن دون تردد أو تذمر، يجب أن ترتدي والدتك ثياباً تناسب مقامهم!
استطرف أبو الجود هذه الفكرة فقال مبطناً الجد بالتهكم:
- طالما أنك يا عمي أبو عبوش كعهدي بك لا تحب العلاك والرغي والثرثرة والحكي الفاضي! قل لي باختصار، ما هي الأزياء التي ينبغي على أمي ارتداءها وتكون مناسبة لمقام هؤلاء الناس الأكابر؟
قال: ترتدي ثوباً محتشماً، وفوقه بالطو فرو أو عادي، وبدلاً من الغطاء الشرعي تضع على رأسها "كاسكيت" يغطي شعرها، وفي الوقت نفسه يعطيها جمالية خاصة، ولا بأس أن تلبس في قدميها (سكربينة) بكعب عال، وحينما تمشي، وبما أن الدنيا صيف تحمل في يدها شمسية بيضا، و..
لم يستطع أبو عبوش أن يكمل حديثه عن مكونات اللباس العصري الذي يقترحه لأجل والدة السيدة أم جواد، ذلك أنا أبا الجود انفلت بالضحك، واستمر يضحك حتى كاد أن يقع من طوله، وحينما استفسر منه أبو عبوش عن سبب ضحكه قال أبو الجود:
- لا يوجد أي سبب، الله وكيلك، كل ما في الموضوع أنني تخيلت والدتي وهي ترتدي هذه الثياب.. كه كه كهي، هأ هأ هأ.. شي يضحك فعلاً!
36- أبو شعلان والإيكوغراف
أشرقت الشمس الشباطية على الحارة القديمة ذات الزواريب المتعرجة التي يقطنها بطل سيرتنا أبو الجود، فخرج أهل الحارة ليتشمسوا على البيدر. وكان خالي أبو شعلان المجنون العصابي قد مل هو الآخر من البرد والمطر والصقيع، وشعر بالدفء فتخلى عن بعض ثيابه المكونة من شرائح بالات القطن المصنوعة من الخيش، والأعدال المصنوعة من (الجنفاص)، وجلس بين الرجال مفرشخاً ساقيه، وشرع يقص عليهم قصصاً وسوالف غير مترابطة عن صديقه بعليلو الذي عمر بيتاً في رأس الجبل وهو الآن يرعى الجدايا ويصيح المواويل والعتابا والفراقيات والسواحلي، وصديقه الآخر (أبو دنكورة) الذي اشترى ستة دكاكين في ساحة الخضار، بمليون ليرة، مع أن أبو دنكورة في الواقع لا يأكل لقمة واحدة إذا لم يتعطف عليه الناس بفرنك أو فرنكين! وعن صديقه الآخر راتب الهجي الذي كان يلعب مع رفاقه بالعصّمينا ونطَّ نطة عالمية فوقع على رأسه وأخذوه إلى المستشفى ليجدوا أنه فارق الحياة، فأقيمت له جنازة حافلة وزع فيها الخبز مع الحلاوة الكشيشية على المدعوين، وكان نصيبه أربعة أرغفة محشوة بالحلاوة تناولها خلال وجبة واحدة!
وبينما كان الخال أبو شعلان مسترسلاً في عرض أكاذيبه وخرابيطه على الرجال المتشمسين إذ مر بهم شاب أزعر، التفت نحوه وقال له:
- ما رأيك يا خالي أبو شعلان أن نزوجك ابنة خالتي هدلا الهبلا؟!
وكانت هذه العبارة تغيظ الخال أبا شعلان إلى أبعد الحدود، فما كان منه إلا أن حمل حجرة كبيرة وكالَ بها الشاب الذي سارع إلى الهرب والاختفاء، فاصطدمت الحجرة بباب أحد المنازل فهشمته، ووقتها أحس أبو شعلان بالإحباط فسارع إلى افتعال مشكلة مع الرجال المتشمسين، عسى أن يتصدى له أحدهم فيفرغ جام غضبه عليه. التفت نحو الرجال وقال لهم:
- ولاك! أنتم كلكم أوباش وسرسرية! وعيب على صاحب أكبر شنب فيكم أن يعد نفسه بين الرجال!
ردوا عليه بعبارات متداخلة تقول:
- معك حق ياخالي.
- أي نعم نحن أوباش.
- شواربنا لا قيمة لها.
- نحن لسنا من الرجال.
- نعم، نحن سرسرية..
.. إلخ.
لم يوفق أبو شعلان إذن بافتعال مشكلة مع الرجال، فأطرق برأسه إلى الأسفل وشرع ينفح مثل الحية البالعة!
أبو شعلان، بحسب ما حكى لي بطل سيرتنا أبو الجود، لم يكن يمارس أي نوع من أنواع العبادات الدينية، وفي الوقت نفسه لم يكن يفرق بين طهارة ونجاسة، وقلما يستحم، ومع ذلك فقد كان أهل البلدة يعتقدون بأنه وأمثاله من المهابيل لهم كرامات عند الله تعالى، وأنه يستجيب لأدعيتهم وتوقعاتهم، لذلك كان يأتي إليه أصحاب الآلام العظمية والعضلية ويطلبون منه أن يُكَـبِّسهم بيديه المباركتين، وما هي إلا بضع تكبيسات حتى يزول الألم ويرتاح الجسم المتوتر الموجوع،.. وتأتي إليه المرأة الحامل وتسأله عن جنس مولودها، فيقول لها: بودك تولدي صبي! فتفرح المرأة وتذهب إلى بيتها كاسبة غانمة، فإذا صح توقعه ازدادت قناعتها وقناعة الناس في البلدة بأنه يعرف جنس المواليد أكثر من الإيكوغراف الذي تم اختراعه في زمن لاحق! وإذا خاب توقعه تقول المرأة في سرها:
- يضرب في شكله! شقفة مجنون مهستر مأنشح؟!
وكان تلاميذ المدارس يمرون بالخال أبي شعلان ويسألونه عما إذا كانوا سينجحون في صفوفهم وكان يرد عليهم بعبارة واحدة هي: انبسط، بودك تنجح إلى الصف الثاني!
إذن، وبينما كان أبو شعلان غاضباً، محبطاً، مستعداً للشجار مع ذباب وجهه، إذ خطرت من آخر الزقاق امرأة تعاني من آلام في مفاصلها بدليل أنها تمشي حنجلة، توقفت أمامه وقالت له:
- جسمي مكسر يا خالي أبو شعلان، الله يرضى عليك كبسني!
فعاجلها بالقول وكأنه وجد ضالته التي يبحث عنها:
- اذهبي من هنا يا بادعة! الله يلعن كلبك!
شهقت المرأة حينما سمعت من أبي شعلان هذا الجواب غير المتوقع وقالت له:
- الله يهدَّك يا أبو شعلان المجنون. الله يموتك ويخلص هذه الحارة منك.
فحمل حجرة كبيرة وكالها بها، ولولا أن نزل ستر الله على الحارة في تلك الهنيهة لكان أبو شعلان ارتكب جريمة قتل مروعة!