إشارات
إلى القصيدة و الشاعر((إسماعيل عامود))
إلى القصيدة و الشاعر((إسماعيل عامود))
مهتدي مصطفى غالب
تعريف
إسماعيل عامود شاعر أعتبر قصيدته شهادة بأن القصيدة هي الحياة التي سكنت روحه و جسده .. لذا سأهدي الشاعر و قصيدته بعضا ً من تنبيهاتي و إشاراتي ...
تنبيه (1)
قصيدة النثر و شعراؤها لم يُقاربوا بشكلٍ نقدي يُقارب مضامين قصيدة النثر الفكرية ، بل انحصر النقد و النقد المضاد حول شكلها فقط ..
تنبيه(2)
في صفحات قليلة المساحات .. كيف لي أن أختصر مساحات و مسافات شعرية غطتها تجربة بدأت منذ عام (1942) و لا زالت تنسج مشروعها الشعري حتى الآن ..
الإشارة الأولى
على شرفات الطفولة تتسكع الأماني لتصبح نوراً يضيء وقتنا لنطير بأجنحة الوعد المأمول الذي يتكسر في كل لحظة ملايين المرات ..طفولة الصبح تعلم الشمس كيف تنظف أسنانها و ترتدي مريولها و تذهب إلى مدرسة الحياة تعلم النهار كيف يخرج من ثيابه و يقف عارياً أمام الإنسان ..
الإشارة الثانية
حين ركض الوعي الأدبي في خلايا جسمي ..رأيت جدران غرفة والدي مغطاة بالكتب و رأيتها تقاسمني حب أبي لي ..فكرهتها ..و أردت أكثر مرة إحراقها إلى أن هُجِر أبي إلى غربة لقمة الخبز و الفكر...باغتراب قسري فأصبحت الكتب تحمل رائحة أبي و حبره و ألمه و دموعه التي رسمت كونها الذهبي ..فبدأت أبحث عني و عن أبي بين هذه الأوراق التي بدت لي جامدة عاتية قاسية كجدار من صوان الكلمات تتحطم عليها رغبتي في القراءة ..هنا يجلس التاريخ بنفاقه محاولا أن يكون كمعلم وقورٍ يعطيني درساً و يغطي رئتي بالغبار الأثري ..و هناك فلسفة متبجحة بالأخلاق و التورم و التوهم ..و إلى جانبها تراث يلبس جلباب وقاره المصطنع و يسلط سيف فتاويه على عنق المفردات و الحلم ..و في زاوية أخرى يجلس طه حسين ليقلع أضراس شوقي ضيف بكماشة النحو و اللغة التي تحجرت على أفواه ميتة و لكنها ترسم غد الشرق المحنط ..و في مكان أخر يحاضر عباس محمود العقاد بوقار قاطع كالسيف ..و هناك المتنبي الذي يغازل أبا العلاء المعري فيتوافقان على رسالة الغفران و لزوم ما لا يلزم ... أي عالم أنت يا عالم أبي و أين أنا منه و منك ؟؟
أشباح من التكلف تلاحقني و أنا أهرب منها باحثا عن صدى لنفسي و كينونتي ..و فجأة و في ركن قصي و مهمل من المكتبة التي أصبحت جدران روحي المغلقة و قفصاً حُبست فيه أحلامي ..رأيت مجموعة من الكتب المتآخية و المتكاتفة جنباً إلى جنب ما هذه ؟؟: (الفرح ليس مهنتي) .. لمحمد الماغوط (فعلا الفرح ليس مهنتي أنا ) هذا الكتاب يخاطبني، و هذا ما هو ( غرفة بملايين الجدران ) أنه كغرفتي هذه لو كان كل كتاب جدار و هو فعلا جدار عقلي ..إنه يتحدث عني ..و (سمرنار – و شتاء لسليمان عواد ) و (من أغاني الرحيل و كآبة و التسكع و المطر لإسماعيل عامود) ...و (الظل و حارس المقبرة لفايز خضور9 .. ها أنا ذا أرى نفسي في كل جملة و قصيدة من هذه القصائد إنها حقاً تعبر عني فتآخيت مع هذه المجموعات و عشت معها مكونة وعيي الشعري ..و هي التي كانت المفاتيح التي فتحت أمامي قلاع التراث و التاريخ و الفلسفة و الفكر .. فكانت النطفة التي لقحت بويضة روحي لتنتج طفولة وعيي الفكري
الإشارة الثالثة
و جيلنا جيل يتيم الأبوة ..نحن الذين بدأنا الكتابة و النشر منتصف سبعينات القرن الماضي ..لأن من كان المفروض بهم أن يكونوا أباءً أدبياً و ثقافياً لنا تقوقعوا مشكلين طبقة كتيمة من العنجهية الأدبية و النكران الثقافي للأجيال التي سبقتهم و تلتهم - فمن قبلهم و من بعدهم ليأتِ الطوفان -..فبدأنا النحت و التحدي بكتاباتنا محاولين كسر هذه الطبقة الكتيمة بأجنحةٍ من خيالٍ و طفولةٍ ... و في هذا المحيط الذي كنا نتلاطم به مع أمواج النكران و التشظي ظهرت يد الأجداد ممدودة من خلال مجلة الثقافة التي كان يشرف على تحريرها الشاعر إسماعيل عامود ، كقشة أنقذتنا من عواصف عاتية .. فظهرت من خلال رعايته هذه أسماء مهمة منها : رياض صالح الحسين ((خراب الدورة الدموية )) و صقر عليشي (( بعينيك ضعت )) و عبد القادر الحصني (( ماء الياقوت )) وآخرون كثر .. لقد كان شاعرنا حضناً دافئاً يحمينا من التكسر و الانكسار ..
الإشارة الرابعة
هكذا تعرفنا على إسماعيل عامود الشاعر المتشرد من أغاني رحيله المحملة بالكآبة و البكاء و التملص من أحلام ليست أحلامه لكنها تزوره صبحاً و مساء ..حين كان طفلاً يستيقظ على زقزقة عصافير الشهوة محدقا بشجرة سرو من شقاوة و حنين تتطاول حتى سقف السماء.. و كان يفكر أنه لو قطعت هذه الشجرة لسقطت السماء كي تعانق الأرض ..تسكعاً و مطراً يرافق مراهقته المقتولة فقراً و تشرداً على أرصفة موانئ العالم المجهول ، يغني على ربابته التي تقطعت أوتارها حنيناً لماء الوعي ..أغنيات للأرصفة البالية ... من رصيف الولادة إلى رصيف التذكر و الطفولة حتى رصيف التسكع و الانتظار ...لينشد قلبه أشعاراً من أجل الصيف .. الذي يتفتح سنبلةً من حنطة الإبداع و رؤية الخلق الفني المتكامل ...ليتابع تشرده و رحيله .. مسافراً في الاتجاه المعاكس .. كي يصل إلى مدينة لا يسكنها الخوف أسمها ( العشق ) ... و في العشق ألقى أسلحته لكنه لم يستطع الهروب من همِّ القصيدة التي لا زالت تقلق روحه و ضلوعه و هو ينتظرها أن تكتبه ..فتأتيه يمامة من ماضٍ تهدل بعمر من بكاء و شوق.
الإشارة الخامسة
الدخول إلى عالم الشاعر إسماعيل عامود يحتاج لأكثر من أداة شعرية و لغوية ، فهو لم يأخذ نمطاً أو مدرسة شعرية و يختص بها بل عايش و عاشر معظم الأنماط الشكلية للقصيدة العربية لدرجة ابتدع أنماطا خاصة به ، و ذلك لمقولة يحافظ عليها و هي ((إن القصيدة هي التي تفرض شكلها المناسب لها كما تظهر الوردة شكلها و عطرها الذي ترغبه ، و الشعر يبقى شعراً كيفما كان شكله )) هذه المقولة صحيحة و موضوعية تماماً آخذين بعين الاعتبار أن خلاف الشعر بين الوزن و النثر للآسف خلاف شكلي نمطي و ليس خلاف فكري على مضامين هذا الشعر أو ذاك .. و هذا ما أفقد هذا الخلاف مضمونه و نتائجه الفكرية فهو خلاف مظهري ليس إلا..
وهذا يدفعنا لإيضاح المشروع الشعري للشاعر إسماعيل عامود من خلال أعماله .. ففي ( من أغاني الرحيل ) كان تقليدي الشكل و تفعيلي الصيغة إنما بمضامين تقارب الحياة اليومية بغنائية رقراقة ندية بالوجع و الهم اليومي ، أما في ( كآبة ) فإننا نرى توأمة بينها و بين مشروع الشاعر سليمان عواد في مجموعتيه (سمرنار و شتاء ) من حيث بساطة اللغة و السبك و غياب التكلف و الزركشة و ظهور الانسيابية لحد يقارب النثرية و يتجاوز الشاعرية .
أما في ( التسكع و المطر ) الذي أعتبره الولادة الحقيقية لقصيدة النثر العربية بأهم أنماطها الشكلية و الفكرية فهو حرر القصيدة من الوصفية و أخذها إلى الدرامية الواقعية المتفاعلة مع أحاسيس الأشياء و الموجودات كما يتنفسها الشاعر .
أما في أعماله الأخرى فلقد تشارك النمط الوزني مع النمط النثري في صياغتها و بقدر ما كان التسكع و المطر رائداً في القصيدة النثرية العربية بتمرده الشكلي و الفكري ..نجد أن شاعرنا و حسب طبيعته تخلى عن و حدة الديوان الشكلية لصالح التوافقية بين الأشكال و الأنماط المختلفة للقصيدة ، رغم وحدة الديوان الفكرية ، وهذا برأيي أفقد قصيدة النثر عند الشاعر تألقها و وحدتها و رياديتها فتراخت بنيتها النصية من خلال محاولته التوفيقية بين الوزن و النثر عن طريق نقل مضامين النثر للوزن و العكس ، فتراجعت قصيدة الشاعر .. لتصبح جزءً من مشروعه الشعري التوفيقي الذي يستند إلى أن الشكل و المضمون هما لغة تعبير الشعر.... مشروع الشاعر الشعري هو التآخي و التوافق و التزاوج بين الأنماط الشكلية المختلفة خدمة للفكر الشاعري الإنساني: ((و الشعر كالحياة كلما تطورت هذه الجغرافية الإنسانية تطور الشعر معها لأنه يستمد قوته و يأخذ معينه من أصله الأم ))
توافقية الشاعر ليست إلغائية بل تعني توافق كلّ الأنماط لتصبح شعراً يماثل الحياة بأنماطها المتعددة لا صراع نمطي بل فكري خلاق ، فهو يبحث عن طمأنينة التوافق بين الأنماط لتتشارك معا في عملية الإبداع الخلاقة ، و هذا يناقض التعددية التي تعني قبولنا بكل الأنماط بشرط أن تتفاعل و تتحاور بتميزها و هويتها لتعطي حراكاً حميمياً خلاقاً مشاكسا لا مرتاحاً ، و بالتالي هذا التضاد بين الأنماط هو الذي يطور الشعر ويخلده لا التوافق و لا الإلغاء الذي يلغي الصراع الفكري المحرك الأساسي للتطور ، فحلول الشاعر التوفيقية جعلت قصيدته تتماوج بين الوزن و النثر ، فأصبح تألق الشاعر كطير ولد و عاش حراً ينتقل من شجرة إلى أخرى في غابة الحرية ...ليؤسر و يقفَّص بقضبان الوزن و القافية .
و أعود لأقول هذه محاولة قصيرة و موجزة للدخول لملامح القصيدة عند الشاعر إسماعيل عامود بالتأكيد لم أستطع من خلالها أن أكشف لكم ما اكتشفته من شاعرية وروعة لدى الشاعر في أنماط الشعر كافة و خصوصا قصيدة النثر في ديوانه ((التسكع و المطر)) الذي أعتبره من أنضج دواوين قصيدة النثر العربية التي عرفتها حتى الآن
تنبيه (3)
في مقدمة ( التسكع و المطر) .. كان إسماعيل عامود ثائراً مع قصيدة النثر و متمرداً على كل الأنماط التعبيرية الشعرية ، و في إطلالته في ( العشق مدينة لا يسكنها الخوف)..تظهر رؤيته التوافقية بين الأنماط الشعرية كافة .
الإشارة السادسة
أن قصيدة إسماعيل عامود بدأت مع ديوانه الأول و لم تنته فمشروعه الشعري إضافة لوحدة الديوان ..فهو مشروع و حدة الحياة و الشعري فكل أعماله متناسقة و متكاملة .. و القصيدة بأنماطها كافة تعبر أصدق تعبير عن الشاعر ففيها تراه و فيه تراها إنهما يمثلان توحد الشاعر مع القصيدة و القصيدة مع الشاعر..
و إشاراتنا هذه لنواح في قصيدته محاولة لدق باب عالمه الشعري لإضاءة بعض ما رأيناه من خلال متابعتنا لقصيدته فهو رغم كل الدراسات التي كتبت عنه لم يقرأ بشكل كاف بعد و خصوصاً بما يتعلق
بمضامين شعره الفكرية و الإنسانية و انحصرت الدراسات بالشكل الفني للقصيدة ..
تنبيه (4)
شكرا لك إسماعيل عامود فأنت جزء من كليتي الفكرية و الشعرية و قصيدتي الحياتية ...و لك أجنحة ترفرف بين مفرداتنا و قصائدنا.. و إن اختلفت رؤيتنا لرؤيتك لمشروعك الشعري .. فسيبقى مشروعك الشعري شجرة من عبق الحياة و الإنسان يقطف منها النقاد الكثير .. الكثير إن تخلوا عن دراسة الأنماط الشكلية للقصيدة لديك واهتموا بالعلاقة التواشجية بين الشكل و المضمون في قصائدك و في شعرنا العربي المعاصر ..و شكراً لكل الشعراء الحقيقيين الذين يكتبون القصيدة الحقيقة - كيفما كان نمطها الشكلي فالحقيقة دائما تكمن في المضمون و الشكل يدل عليها - .. والذين لم يكتبوا إلا حقيقتهم و حقيقتنا..
إسماعيل عامود شاعر أعتبر قصيدته شهادة بأن القصيدة هي الحياة التي سكنت روحه و جسده .. لذا سأهدي الشاعر و قصيدته بعضا ً من تنبيهاتي و إشاراتي ...
تنبيه (1)
قصيدة النثر و شعراؤها لم يُقاربوا بشكلٍ نقدي يُقارب مضامين قصيدة النثر الفكرية ، بل انحصر النقد و النقد المضاد حول شكلها فقط ..
تنبيه(2)
في صفحات قليلة المساحات .. كيف لي أن أختصر مساحات و مسافات شعرية غطتها تجربة بدأت منذ عام (1942) و لا زالت تنسج مشروعها الشعري حتى الآن ..
الإشارة الأولى
على شرفات الطفولة تتسكع الأماني لتصبح نوراً يضيء وقتنا لنطير بأجنحة الوعد المأمول الذي يتكسر في كل لحظة ملايين المرات ..طفولة الصبح تعلم الشمس كيف تنظف أسنانها و ترتدي مريولها و تذهب إلى مدرسة الحياة تعلم النهار كيف يخرج من ثيابه و يقف عارياً أمام الإنسان ..
الإشارة الثانية
حين ركض الوعي الأدبي في خلايا جسمي ..رأيت جدران غرفة والدي مغطاة بالكتب و رأيتها تقاسمني حب أبي لي ..فكرهتها ..و أردت أكثر مرة إحراقها إلى أن هُجِر أبي إلى غربة لقمة الخبز و الفكر...باغتراب قسري فأصبحت الكتب تحمل رائحة أبي و حبره و ألمه و دموعه التي رسمت كونها الذهبي ..فبدأت أبحث عني و عن أبي بين هذه الأوراق التي بدت لي جامدة عاتية قاسية كجدار من صوان الكلمات تتحطم عليها رغبتي في القراءة ..هنا يجلس التاريخ بنفاقه محاولا أن يكون كمعلم وقورٍ يعطيني درساً و يغطي رئتي بالغبار الأثري ..و هناك فلسفة متبجحة بالأخلاق و التورم و التوهم ..و إلى جانبها تراث يلبس جلباب وقاره المصطنع و يسلط سيف فتاويه على عنق المفردات و الحلم ..و في زاوية أخرى يجلس طه حسين ليقلع أضراس شوقي ضيف بكماشة النحو و اللغة التي تحجرت على أفواه ميتة و لكنها ترسم غد الشرق المحنط ..و في مكان أخر يحاضر عباس محمود العقاد بوقار قاطع كالسيف ..و هناك المتنبي الذي يغازل أبا العلاء المعري فيتوافقان على رسالة الغفران و لزوم ما لا يلزم ... أي عالم أنت يا عالم أبي و أين أنا منه و منك ؟؟
أشباح من التكلف تلاحقني و أنا أهرب منها باحثا عن صدى لنفسي و كينونتي ..و فجأة و في ركن قصي و مهمل من المكتبة التي أصبحت جدران روحي المغلقة و قفصاً حُبست فيه أحلامي ..رأيت مجموعة من الكتب المتآخية و المتكاتفة جنباً إلى جنب ما هذه ؟؟: (الفرح ليس مهنتي) .. لمحمد الماغوط (فعلا الفرح ليس مهنتي أنا ) هذا الكتاب يخاطبني، و هذا ما هو ( غرفة بملايين الجدران ) أنه كغرفتي هذه لو كان كل كتاب جدار و هو فعلا جدار عقلي ..إنه يتحدث عني ..و (سمرنار – و شتاء لسليمان عواد ) و (من أغاني الرحيل و كآبة و التسكع و المطر لإسماعيل عامود) ...و (الظل و حارس المقبرة لفايز خضور9 .. ها أنا ذا أرى نفسي في كل جملة و قصيدة من هذه القصائد إنها حقاً تعبر عني فتآخيت مع هذه المجموعات و عشت معها مكونة وعيي الشعري ..و هي التي كانت المفاتيح التي فتحت أمامي قلاع التراث و التاريخ و الفلسفة و الفكر .. فكانت النطفة التي لقحت بويضة روحي لتنتج طفولة وعيي الفكري
الإشارة الثالثة
و جيلنا جيل يتيم الأبوة ..نحن الذين بدأنا الكتابة و النشر منتصف سبعينات القرن الماضي ..لأن من كان المفروض بهم أن يكونوا أباءً أدبياً و ثقافياً لنا تقوقعوا مشكلين طبقة كتيمة من العنجهية الأدبية و النكران الثقافي للأجيال التي سبقتهم و تلتهم - فمن قبلهم و من بعدهم ليأتِ الطوفان -..فبدأنا النحت و التحدي بكتاباتنا محاولين كسر هذه الطبقة الكتيمة بأجنحةٍ من خيالٍ و طفولةٍ ... و في هذا المحيط الذي كنا نتلاطم به مع أمواج النكران و التشظي ظهرت يد الأجداد ممدودة من خلال مجلة الثقافة التي كان يشرف على تحريرها الشاعر إسماعيل عامود ، كقشة أنقذتنا من عواصف عاتية .. فظهرت من خلال رعايته هذه أسماء مهمة منها : رياض صالح الحسين ((خراب الدورة الدموية )) و صقر عليشي (( بعينيك ضعت )) و عبد القادر الحصني (( ماء الياقوت )) وآخرون كثر .. لقد كان شاعرنا حضناً دافئاً يحمينا من التكسر و الانكسار ..
الإشارة الرابعة
هكذا تعرفنا على إسماعيل عامود الشاعر المتشرد من أغاني رحيله المحملة بالكآبة و البكاء و التملص من أحلام ليست أحلامه لكنها تزوره صبحاً و مساء ..حين كان طفلاً يستيقظ على زقزقة عصافير الشهوة محدقا بشجرة سرو من شقاوة و حنين تتطاول حتى سقف السماء.. و كان يفكر أنه لو قطعت هذه الشجرة لسقطت السماء كي تعانق الأرض ..تسكعاً و مطراً يرافق مراهقته المقتولة فقراً و تشرداً على أرصفة موانئ العالم المجهول ، يغني على ربابته التي تقطعت أوتارها حنيناً لماء الوعي ..أغنيات للأرصفة البالية ... من رصيف الولادة إلى رصيف التذكر و الطفولة حتى رصيف التسكع و الانتظار ...لينشد قلبه أشعاراً من أجل الصيف .. الذي يتفتح سنبلةً من حنطة الإبداع و رؤية الخلق الفني المتكامل ...ليتابع تشرده و رحيله .. مسافراً في الاتجاه المعاكس .. كي يصل إلى مدينة لا يسكنها الخوف أسمها ( العشق ) ... و في العشق ألقى أسلحته لكنه لم يستطع الهروب من همِّ القصيدة التي لا زالت تقلق روحه و ضلوعه و هو ينتظرها أن تكتبه ..فتأتيه يمامة من ماضٍ تهدل بعمر من بكاء و شوق.
الإشارة الخامسة
الدخول إلى عالم الشاعر إسماعيل عامود يحتاج لأكثر من أداة شعرية و لغوية ، فهو لم يأخذ نمطاً أو مدرسة شعرية و يختص بها بل عايش و عاشر معظم الأنماط الشكلية للقصيدة العربية لدرجة ابتدع أنماطا خاصة به ، و ذلك لمقولة يحافظ عليها و هي ((إن القصيدة هي التي تفرض شكلها المناسب لها كما تظهر الوردة شكلها و عطرها الذي ترغبه ، و الشعر يبقى شعراً كيفما كان شكله )) هذه المقولة صحيحة و موضوعية تماماً آخذين بعين الاعتبار أن خلاف الشعر بين الوزن و النثر للآسف خلاف شكلي نمطي و ليس خلاف فكري على مضامين هذا الشعر أو ذاك .. و هذا ما أفقد هذا الخلاف مضمونه و نتائجه الفكرية فهو خلاف مظهري ليس إلا..
وهذا يدفعنا لإيضاح المشروع الشعري للشاعر إسماعيل عامود من خلال أعماله .. ففي ( من أغاني الرحيل ) كان تقليدي الشكل و تفعيلي الصيغة إنما بمضامين تقارب الحياة اليومية بغنائية رقراقة ندية بالوجع و الهم اليومي ، أما في ( كآبة ) فإننا نرى توأمة بينها و بين مشروع الشاعر سليمان عواد في مجموعتيه (سمرنار و شتاء ) من حيث بساطة اللغة و السبك و غياب التكلف و الزركشة و ظهور الانسيابية لحد يقارب النثرية و يتجاوز الشاعرية .
أما في ( التسكع و المطر ) الذي أعتبره الولادة الحقيقية لقصيدة النثر العربية بأهم أنماطها الشكلية و الفكرية فهو حرر القصيدة من الوصفية و أخذها إلى الدرامية الواقعية المتفاعلة مع أحاسيس الأشياء و الموجودات كما يتنفسها الشاعر .
أما في أعماله الأخرى فلقد تشارك النمط الوزني مع النمط النثري في صياغتها و بقدر ما كان التسكع و المطر رائداً في القصيدة النثرية العربية بتمرده الشكلي و الفكري ..نجد أن شاعرنا و حسب طبيعته تخلى عن و حدة الديوان الشكلية لصالح التوافقية بين الأشكال و الأنماط المختلفة للقصيدة ، رغم وحدة الديوان الفكرية ، وهذا برأيي أفقد قصيدة النثر عند الشاعر تألقها و وحدتها و رياديتها فتراخت بنيتها النصية من خلال محاولته التوفيقية بين الوزن و النثر عن طريق نقل مضامين النثر للوزن و العكس ، فتراجعت قصيدة الشاعر .. لتصبح جزءً من مشروعه الشعري التوفيقي الذي يستند إلى أن الشكل و المضمون هما لغة تعبير الشعر.... مشروع الشاعر الشعري هو التآخي و التوافق و التزاوج بين الأنماط الشكلية المختلفة خدمة للفكر الشاعري الإنساني: ((و الشعر كالحياة كلما تطورت هذه الجغرافية الإنسانية تطور الشعر معها لأنه يستمد قوته و يأخذ معينه من أصله الأم ))
توافقية الشاعر ليست إلغائية بل تعني توافق كلّ الأنماط لتصبح شعراً يماثل الحياة بأنماطها المتعددة لا صراع نمطي بل فكري خلاق ، فهو يبحث عن طمأنينة التوافق بين الأنماط لتتشارك معا في عملية الإبداع الخلاقة ، و هذا يناقض التعددية التي تعني قبولنا بكل الأنماط بشرط أن تتفاعل و تتحاور بتميزها و هويتها لتعطي حراكاً حميمياً خلاقاً مشاكسا لا مرتاحاً ، و بالتالي هذا التضاد بين الأنماط هو الذي يطور الشعر ويخلده لا التوافق و لا الإلغاء الذي يلغي الصراع الفكري المحرك الأساسي للتطور ، فحلول الشاعر التوفيقية جعلت قصيدته تتماوج بين الوزن و النثر ، فأصبح تألق الشاعر كطير ولد و عاش حراً ينتقل من شجرة إلى أخرى في غابة الحرية ...ليؤسر و يقفَّص بقضبان الوزن و القافية .
و أعود لأقول هذه محاولة قصيرة و موجزة للدخول لملامح القصيدة عند الشاعر إسماعيل عامود بالتأكيد لم أستطع من خلالها أن أكشف لكم ما اكتشفته من شاعرية وروعة لدى الشاعر في أنماط الشعر كافة و خصوصا قصيدة النثر في ديوانه ((التسكع و المطر)) الذي أعتبره من أنضج دواوين قصيدة النثر العربية التي عرفتها حتى الآن
تنبيه (3)
في مقدمة ( التسكع و المطر) .. كان إسماعيل عامود ثائراً مع قصيدة النثر و متمرداً على كل الأنماط التعبيرية الشعرية ، و في إطلالته في ( العشق مدينة لا يسكنها الخوف)..تظهر رؤيته التوافقية بين الأنماط الشعرية كافة .
الإشارة السادسة
أن قصيدة إسماعيل عامود بدأت مع ديوانه الأول و لم تنته فمشروعه الشعري إضافة لوحدة الديوان ..فهو مشروع و حدة الحياة و الشعري فكل أعماله متناسقة و متكاملة .. و القصيدة بأنماطها كافة تعبر أصدق تعبير عن الشاعر ففيها تراه و فيه تراها إنهما يمثلان توحد الشاعر مع القصيدة و القصيدة مع الشاعر..
و إشاراتنا هذه لنواح في قصيدته محاولة لدق باب عالمه الشعري لإضاءة بعض ما رأيناه من خلال متابعتنا لقصيدته فهو رغم كل الدراسات التي كتبت عنه لم يقرأ بشكل كاف بعد و خصوصاً بما يتعلق
بمضامين شعره الفكرية و الإنسانية و انحصرت الدراسات بالشكل الفني للقصيدة ..
تنبيه (4)
شكرا لك إسماعيل عامود فأنت جزء من كليتي الفكرية و الشعرية و قصيدتي الحياتية ...و لك أجنحة ترفرف بين مفرداتنا و قصائدنا.. و إن اختلفت رؤيتنا لرؤيتك لمشروعك الشعري .. فسيبقى مشروعك الشعري شجرة من عبق الحياة و الإنسان يقطف منها النقاد الكثير .. الكثير إن تخلوا عن دراسة الأنماط الشكلية للقصيدة لديك واهتموا بالعلاقة التواشجية بين الشكل و المضمون في قصائدك و في شعرنا العربي المعاصر ..و شكراً لكل الشعراء الحقيقيين الذين يكتبون القصيدة الحقيقة - كيفما كان نمطها الشكلي فالحقيقة دائما تكمن في المضمون و الشكل يدل عليها - .. والذين لم يكتبوا إلا حقيقتهم و حقيقتنا..