حكاية إدلبية: تلميذ "نبيه" جداً!
للكاتب خطيب بدلة
من عجائب اللغة العربية أنها تنعتُ الناس أحياناً بما ليس فيهم، كالقول عن الشخص العاقل المغفل الشبيه بالأجدب إنه (مؤدب)، مع أن هذه الكلمة، نفسها، تُطلق على الشخص الفهيم، الموهوب، المثقف، المبدع، ذي الشخصية القوية المشاكسة،.. وشتان ما بين المعنيين!
وهذا- بظني- لم يأت من فراغ، أو نتيجة للمصادفة، أو قلة الانتباه، بل هو مقصود لذاته، فقد كان أجدادنا يسمون الطفل الوليد الغض الإهاب ذئباً ونمراً وكلباً وكليباً ونسراً وصقراً ومعاوية،.. بقصد أن يكون قوياً قادراً على مصارعة الظروف الخشنة في المستقبل. وأنا حذوت حذوهم فعمدت إلى تسمية كتابي هذا (سيرة الحب)، مع أنها في الحقيقة سيرة للفقر والبؤس والطفر ونكد العيش ..، ولكنها، وعلى الرغم من كل شيء، عامرة بالحب، حب الحياة، ونشوة الانتصار على ظروفها الخشنة.
ومن هذه الملابسات، أيضاً، أن بعض الأهالي يطلقون على أبنائهم، من قبيل التفاؤل، أسماء من مثل (ذكي، وفهيم، ونبيه، ولماح)، وحين يكبر هؤلاء الأولاد قلما تنطبق معاني أسمائهم على شخصياتهم، مثلما حصل مع ابن حارتنا "نبيه"، الذي عاش حياة خالية من النباهة على نحو مرعب!
حينما بلغ "نبيه" السابعة، وهي السن التي كان الأولاد يدخلون فيها المدرسة، كان حجمه قد أصبح أكبر من حجم الجحش بقليل، وكان مجايلوه يمشون بجواره، أو في ظله، فلا يظهر منهم لرائيهم القادم من الجهة الأخرى سوى الشيء القليل! وقد سمحت له إدارة المدرسة بارتكاب مجموعة من المخالفات انطلاقاً من القاعدة التي تقول بأن الضرورات تبيع المحظورات، منها أن الإدارة لم تعترض على ارتدائه الجاروخ الديري ذي الإصبع بدلاً من الحذاء (الصباط)، لأن نمرة قدمه أكبر بكثير من النمر الولادية المتوفرة في الأسواق، وأما النمرة الرجالية التي تبدأ من الأربعين وتنتهي بالـ (46) فهي قطعاً غير مناسبة لقدم ولد في الصف الأول الابتدائي!
كان نبيه يأتي كل صباح إلى المدرسة حاملاً بفردتي جاروخه ما لا يحسب الحاسب من الطين الممتزج بروث البغال والحمير والكدش، مما يجعل آذن المدرسة أبا أيوب يرفع أصابعه إلى شعره لينتفه غيظاً من "نبيه" وجاروخه، ثم يعيدهما إلى الأسفل حينما يتذكر أنه أصلع، ويستعيض عن نتف الشعر بالسباب على حظه المشحر الذي جعل خدمته في هذه المدرسة التي تقع في حارة موحلة ومزبلة وفيها، فوق هذا كله، تلميذٌ كريه مثل نبيه.
كما سمحت له الإدارة، بناء على اقتراح معلم الصف، أن يجلس في المقعد وحده، مع أن المتعارف عليه كان بأن يجلس كل ثلاثة أو أربعة تلاميذ في مقعد، وهذا السماح لم يكن بسبب حجمه الـ (إكسترا) فقط، بل لأن نبيه غدار بطبعه، ففي بداية العام الدراسي أجلسوا ثلاثة تلاميذ بجواره في المقعد، وكان يتظاهر بأن ذبابة لسعته على حين غرة في إصبع قدمه النابقة من فتحة الجاروخ، ويحركها بقوة كردة فعل غير مقصودة على لسعة الذبابة، فيصيب بها أرجل التلاميذ الجالسين بقربه، فيتدافعون ويخرجون من المقعد وهم يصرخون بالمقلوب بعد أن تنعقر أقدامهم وقصبات سيقانهم، وبعضهم يغادرون المدرسة ولا يعودون إليها إلا مع أولياء أمورهم الذين يشترطون على الإدارة ألا تُجلسهم بجوار نبيه تحت طائلة ترك المدرسة (التبطيل).
وكان معلم الصف، الشيخ عبد الرحمن، قد أمضى السنوات التسع والخمسين من عمره، ومنها سبع وعشرون سنة في التعليم الابتدائي، وهو يحتفظ بقناعة راسخة مفادها أنه لا يوجد إنسان، مهما بلغ من الغباء، يستعصي على التعليم، إلى أن جاء يوم كان يعطي فيه للتلاميذ درس "الأناشيد". كتب على السبورة نص أنشودة "البلبل والقفص"، ورسم بجوار النص قفصاً جميلاً بداخله بلبل ملون، وبالمصادفة وقع بصره على "نبيه" فقال له معتقداً أن ذكاءه الفطري يتناسب طرداً مع حجمه الـ (إكسترا):
اقرأ الأنشودة يا بني.
فصمت نبيه صمت أهل القبور. فقال الشيخ محاولاً تقريب المسألة من ذهنه:
- حسناً يا بني، انظر إلى الرسمة وقال لي ماذا فيها؟
فقال نبيه باندفاع: زنبيل ومجرفة أستاذ!
ووقتها تراجع الشيخ عبد الرحمن عن قناعته الأزلية القائلة بأنه لا يوجد أحد يستعصي على التعليم.
للكاتب خطيب بدلة
من عجائب اللغة العربية أنها تنعتُ الناس أحياناً بما ليس فيهم، كالقول عن الشخص العاقل المغفل الشبيه بالأجدب إنه (مؤدب)، مع أن هذه الكلمة، نفسها، تُطلق على الشخص الفهيم، الموهوب، المثقف، المبدع، ذي الشخصية القوية المشاكسة،.. وشتان ما بين المعنيين!
وهذا- بظني- لم يأت من فراغ، أو نتيجة للمصادفة، أو قلة الانتباه، بل هو مقصود لذاته، فقد كان أجدادنا يسمون الطفل الوليد الغض الإهاب ذئباً ونمراً وكلباً وكليباً ونسراً وصقراً ومعاوية،.. بقصد أن يكون قوياً قادراً على مصارعة الظروف الخشنة في المستقبل. وأنا حذوت حذوهم فعمدت إلى تسمية كتابي هذا (سيرة الحب)، مع أنها في الحقيقة سيرة للفقر والبؤس والطفر ونكد العيش ..، ولكنها، وعلى الرغم من كل شيء، عامرة بالحب، حب الحياة، ونشوة الانتصار على ظروفها الخشنة.
ومن هذه الملابسات، أيضاً، أن بعض الأهالي يطلقون على أبنائهم، من قبيل التفاؤل، أسماء من مثل (ذكي، وفهيم، ونبيه، ولماح)، وحين يكبر هؤلاء الأولاد قلما تنطبق معاني أسمائهم على شخصياتهم، مثلما حصل مع ابن حارتنا "نبيه"، الذي عاش حياة خالية من النباهة على نحو مرعب!
حينما بلغ "نبيه" السابعة، وهي السن التي كان الأولاد يدخلون فيها المدرسة، كان حجمه قد أصبح أكبر من حجم الجحش بقليل، وكان مجايلوه يمشون بجواره، أو في ظله، فلا يظهر منهم لرائيهم القادم من الجهة الأخرى سوى الشيء القليل! وقد سمحت له إدارة المدرسة بارتكاب مجموعة من المخالفات انطلاقاً من القاعدة التي تقول بأن الضرورات تبيع المحظورات، منها أن الإدارة لم تعترض على ارتدائه الجاروخ الديري ذي الإصبع بدلاً من الحذاء (الصباط)، لأن نمرة قدمه أكبر بكثير من النمر الولادية المتوفرة في الأسواق، وأما النمرة الرجالية التي تبدأ من الأربعين وتنتهي بالـ (46) فهي قطعاً غير مناسبة لقدم ولد في الصف الأول الابتدائي!
كان نبيه يأتي كل صباح إلى المدرسة حاملاً بفردتي جاروخه ما لا يحسب الحاسب من الطين الممتزج بروث البغال والحمير والكدش، مما يجعل آذن المدرسة أبا أيوب يرفع أصابعه إلى شعره لينتفه غيظاً من "نبيه" وجاروخه، ثم يعيدهما إلى الأسفل حينما يتذكر أنه أصلع، ويستعيض عن نتف الشعر بالسباب على حظه المشحر الذي جعل خدمته في هذه المدرسة التي تقع في حارة موحلة ومزبلة وفيها، فوق هذا كله، تلميذٌ كريه مثل نبيه.
كما سمحت له الإدارة، بناء على اقتراح معلم الصف، أن يجلس في المقعد وحده، مع أن المتعارف عليه كان بأن يجلس كل ثلاثة أو أربعة تلاميذ في مقعد، وهذا السماح لم يكن بسبب حجمه الـ (إكسترا) فقط، بل لأن نبيه غدار بطبعه، ففي بداية العام الدراسي أجلسوا ثلاثة تلاميذ بجواره في المقعد، وكان يتظاهر بأن ذبابة لسعته على حين غرة في إصبع قدمه النابقة من فتحة الجاروخ، ويحركها بقوة كردة فعل غير مقصودة على لسعة الذبابة، فيصيب بها أرجل التلاميذ الجالسين بقربه، فيتدافعون ويخرجون من المقعد وهم يصرخون بالمقلوب بعد أن تنعقر أقدامهم وقصبات سيقانهم، وبعضهم يغادرون المدرسة ولا يعودون إليها إلا مع أولياء أمورهم الذين يشترطون على الإدارة ألا تُجلسهم بجوار نبيه تحت طائلة ترك المدرسة (التبطيل).
وكان معلم الصف، الشيخ عبد الرحمن، قد أمضى السنوات التسع والخمسين من عمره، ومنها سبع وعشرون سنة في التعليم الابتدائي، وهو يحتفظ بقناعة راسخة مفادها أنه لا يوجد إنسان، مهما بلغ من الغباء، يستعصي على التعليم، إلى أن جاء يوم كان يعطي فيه للتلاميذ درس "الأناشيد". كتب على السبورة نص أنشودة "البلبل والقفص"، ورسم بجوار النص قفصاً جميلاً بداخله بلبل ملون، وبالمصادفة وقع بصره على "نبيه" فقال له معتقداً أن ذكاءه الفطري يتناسب طرداً مع حجمه الـ (إكسترا):
اقرأ الأنشودة يا بني.
فصمت نبيه صمت أهل القبور. فقال الشيخ محاولاً تقريب المسألة من ذهنه:
- حسناً يا بني، انظر إلى الرسمة وقال لي ماذا فيها؟
فقال نبيه باندفاع: زنبيل ومجرفة أستاذ!
ووقتها تراجع الشيخ عبد الرحمن عن قناعته الأزلية القائلة بأنه لا يوجد أحد يستعصي على التعليم.