أسطورة الخلق البابلية.
قبل التكلم عن أسطورة الخلق البابلية واجب علينا إلقاء الضوء علي محيطها البيئي. لأنه كما هو معروف علمياً ليس لأي اختراع وإبداع إنساني، مهما صغر شأنه، مفهوم وأساس إلا بالدوافع الجغرافية والبشرية والتقدمية. يقول أنطون سعادة: "لا يمكن، مثلاً، أن تكون العجلة التي كان اختراعها خطوة كبيرة في ارتقاء التمدن، قد استنبطت في الصحراء، لأن، استنباطها يقتضي وجود أخشاب صلبة كالسنديان وغيره مما لا وجود له في الصحراء. وهي لا يمكن أن تنتشر بجميع أشكالها في الصحراء، لأنها لا توافق خصائص رمالها". كما يضيف قائلاً: "ان من أهم مؤثرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنها أهم عامل في تكوين شخصية الجماعة".
لقد تصور كتاب أساطير ما بين النهرين، العالم كما يرون اليوم جنوب العراق من منطقة شط العرب. هناك بعد أن تمر مياه الرافدين العذبة في سهول العراق تختلط بمياه الخليج الفارسي المالحة (أو النهر المر) وتخيم الغيوم المنخفضة في الأفق. كانت الأرض بالنسبة لأهل الحضارة البابلية قرصاً مسطحاً بسوار من الجبال. سلسلة زغروس من الشرق وطوروس من الشمال ولبنون من الغرب وعلى هذه السلاسل الجبلية الثلاث ترتكز قبة السماء وكأنها غطاء للأرض وفيها تجول الأجرام السماوية. وجميع هذا الكون تصوروه قائماً في محيط كوني مالح. كل الأرض لم تكن بالنسبة إليهم سوى الهلال الخصيب
لم يكن اختيار الوطن للبابليين- السوريين قراراً عبثياً، بل ملازماً لطبيعة المسيرة الطبيعية. فسورية (الهلال الخصيب) تتمتع بميزات طبيعية جعلت منها مركزاً أساسياً وبؤرة حضارية مميزة، تصلح لتفاعل بشري على جميع صعد أوجه هذا التفاعل.
إن البشائر الأولى لبداية الحضارة، قد انطلقت من سورية، حيث اثبتت الحفريات الأثرية أن أولى تجمعات البشرية المستقرة وأولى القرى المبنية في السهول المفتوحة قد قامت في سورية الجنوبية في فلسطين ووادي الأردن خلال الألف العاشر والألف التاسع قبل الميلاد. وان أولى القرى المكتملة هي أريحا التي استمرت آهلة بالسكان مذ عام 8350 ق.م. حتى عام 7350 ق. م.
ومع بداية الألف السادس قبل الميلاد نرى انتقالاً لمكز الثقل الحضاري في سورية باتجاه وادي الرافدين، حيث نرى ما بين الفترة الممتدة من 5500 إلى 4500 قبل الميلاد نشأت ثلاث حضارات تتابعت وتداخلت هي: حسونة وسامرّاء وتل حلف. في حوالي 4500 قبل الميلاد تنهار حضارة تل حلف مهيئة لظهور الحضارة السومرية على موقع تل العبيد جنوبي وادي الرافدين.
كان السومريون أول من أسس لمجتمع المدينة في تاريخ الحضارة، إلا أنهم لم يعنوا بتشكيل دولة قوميّة تجمع شتات دويلات المدن التي عاشت في شقاق دائم وحروب دامية فيما بينها. وعندما تنبه المجتمع السومري إلى ضرورة التوحيد، كانت حضارته تقطع أشواطها الأخيرة في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد و كان الأكاديون الساميون الذين بدأوا بتنظيم مجتمعهم في شمال سومر يتحفزون لقطف ثمار الحضارة السومرية التعبة.
في ظل هذه الأجواء التاريخية جاءت أساطير البابليين لتثبيت عبادة إلههم الجديد "مردوخ" ولتكمل أعظم تراث بشري لم تقدر التخلي عنه لأنه جزءاً من ثقافتها ومن دمها.
الاينوما ايليش:
تعتبر أسطورة الخليقة البابلية أندر وأعرق وأوسع أسطورة خليقة في العالم القديم، وهي بسبب عراقتها هذه كانت مصدراً أساسياً لأغلب أساطير التكوين في ذلك الوقت.
اسم هذه الأسطورة مأخوذ، كما هي عادة البابليين، من الكلمات الافتتاحية للنص. فاينوما ايليش تعني: عندما في الأعالي.
الملحمة تركبت من عدة أساطير سومريّة بنت عليها العبقرية البابلية ذلك الهيكل الشامخ، الذي يعطي خلاصة عن علم وفكر وفلسفة وفن شعب عريق في مجالات هامة عدة.
وجدت الملحمة موزعة على سبعة ألواح فخارية، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال مكتبته التي احتوت على مئات الألواح في شتى الموضوعات الأدبية والدينية والقانونية… وقد جرى الكشف عن الألواح تباعاً منذ نهاية القرن الماضي وحتى نهاية الربع الأول من القرن الحالي، أما تاريخ كتابتها فيعود إلى مطلع الألف الثاني ق.م. أي قبل ألف وخمسمئة سنة تقريباً من كتابة الألياذة لهوميروس، وتدوين أسفار التوراة العبرانية.
وسوف نعرض الآن ملخص هذه الأسطورة الشعرية العظيمة:
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة: "ابسو" و "تعامة" و "ممو". فأبسو هو الماء العذب، وتعامة زوجته كانت الماء المالح، أما ممو، فيعتقد البعض بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى، و البعض الآخر بانه الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون وهي العماء الأول الذي انبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية. لا تمايز فيها ولا تشكل. ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد لآبسو وتعامة الهان جديدان هما "لخمو" و"لخامو" وهذان بدورهما أنجبا "انشار" و "كيشار" اللذين فاقا ابويهما قوة ومنعة. وبعد سنوات مديدة ولد لأنشار وكيشار ابن اسمياه "آنو" وهو الذي صار فيما بعد الهاً للسماء. وآنو بدروه انجب انكي أو أيا، وهو إله الحكمة والفطنة، والذي غدا فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية. ولقد بلغ ايا حداً من القوة والهيبة، جعله يسود حتى على آبائه.
وهكذا امتلأت أعماق الآلهة تعامة بالآلهة الجديدة، المليئة بالشباب والحيوية، والتي كانت في فعالية دائمة وحركة دائبة، مما غير الحالة السابقة وأحدث وضعاً جديداً، لم تألفه آلهة السكون البدائية، التي عكرت صفوها الحركة، وأقلقت سكونها. حاولت الآلهة البدئية السيطرة على الموقف واستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثاً، الأمر الذي دفعها للعنف. فقام آبسو بوضع خطة لابادة النسل الجديد والعودة للنوم مرة أخرى. وباشر بتنفيذ خطته، رغم معارضة تعامة التي ما زالت تكن بعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات آبسو، خاف الآلهة الشباب واضطربوا. ولم يخلصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم، الإله ايا، الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه، تحميهم من بطش آبائهم، ثم صنع تعويذة سحرية ألقاها على آبسو الذي راح في سبات عميق. وفيما هو نائم، قام ايا بنزع العمامة الملكية عن رأس آبسو، ووضعها على رأسه رمزاً لسلطانه الجديد. كما نزع عن آبسو أيضاً اللقب الإلهي واسبغه على نفسه، كما انقض على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لآبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب. ومنذ ذلك الوقت صار ايا إلهاً للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، ويتحكم به بمقدار، وهو الذي يعطي الانهار والجداول والبحيرات ماءها العذب. وهو الذي يفجر الأرض عيوناً من مسكنه الباطني. ومنذ ذلك الوقت أيضاً، يشاهد ممو فوق المياه الأنهار والبحيرات لأن ايا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام، ولد الإله مردوخ أعظم آلهة بابل، الذي أنقذهم مرة أخرى من بطش الآلهة القديمة، ورفع نفسه سيداً للمجمع المقدس. وكيف لا وهو ابن ايا (انكي) الذي فاق أباه قوة وحكمة وبطشاً. وكما كان الانقاذ الأول على يد الأب انكي، كذلك كان الانقاذ الثاني على يد الابن الشاب مردوخ. فتعامة التي تركت زوجها آبسو لمصيره المحزن دون ان تهرع لمساعدته وهو يذبح على يد الآلهة الصغيرة تجد نفسها الآن مقتنعة بضرورة السير على نفس الطريق لأن الآلهة الصغيرة لم تغير مسلكها، بل زادها انتصارها ثقة وتصميماً على أسلوبها في الحياة. وهنا اجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرضتها على حرب أولئك المتمردين على التقاليد الكونية فوافقت وشرعت بتجهيز جيش عرم قوامه أحد عشر نوعاً من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصيصاً لساعة الصدام، أفاعٍ وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة، جعلت عليها الإله "كينغو" قائداً، بعد ان اختارته زوجاً لها، وعلقت على صدره ألواح الأقدار.
علم الفريق الآخر بما تخطط له تعامة وصحبها فاجتمعوا خائفين قلقين،وأرسلوا الإله ايا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية. ولكن ايا عاد مذعوراً مما رأى، فأرسلوا آنو الذي مضى وعاد في حالة هلع شديد. وهنا خطر لكبيرهم انشار خاطر جعل أساريره تتهلل اذ تذكر مردوخ، الفتى القوي العتي، فارسل في طلبه حالاً.وعندما مثل بين يديه وعلم بسبب دعوته، أعلن عن استعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على اعطائه امتيازات وسلطات استثنائية. فكان له ما أراد. وجلسوا جميعاً حول مائدة الشراب وقد اطمأنت قلوبهم لقيادة الإله الشاب.
أعطى الآلهة، مردوخ، قوة تقرير المصائر، بدلاً من انشار. وأعطوه قوة الكلمة الخالقة. ولكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة، أتوا بثوب وضعوه في وسطهم وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى. هنا تأكد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. فأقاموا له عرشاً يليق بألوهيته، وأعلوه سيداً عليهم جميعاً، ثم أسلموه الطريق إلى تعامة. وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوساً وجعبة وسهاماً وهراوة، كما صنع شبكة هائلة، أمر الرياح الأربعة أن تمسكها من أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق، وأرسل البرق أمامه، يشق له الطريق. دفع أمامه الأعاصير العاتية أطلق طوفان المياه. وانقض طائراً بعربته الإلهية وهي العاصفة الرهيبة التي لا تصد، منطلقاً نحو تعامة، والآلهة تتدافع من حوله تشهد مشهداً عجيباً.
عندما التقى الجمعان، طلب مردوخ قتالاً منفرداً مع تعامة، فوافقت عليه، ودخل الاثنان حالاً في صراع مميت (راجع الملحق، رسم رقم 3-4) . وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولة على الرياح، وعندما فتحت فمها لالتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانفتحت وامتنع عليها الحراك. وهنا أطلق الرب من سهامه واحداً تغلغل في حشاها وشطر قلبها. وعندما تهاوت على الأرض أجهز على حياتها، ثم التفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد، وسلبه ألواح الأقدار وعلقها على صدره. وهنا تمزق جيش تعامة شر تمزيق، وفر معظمه يطلب نجاة لنفسه، ولكن مردوخ طاردهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر.
بعد هذا الانتصار المؤزر على قوة السكون والسلب والفوضى، التفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولة الأولى، إلى حالة النظام والترتيب، حالة الحركة والفعالية و الحضارة. عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأملها، ثم أمسك بها وشقها شقين، رفع النصف الأول فصار سماء وسوى النصف الثاني فصار أرضاً. ثم التفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق. فخلق النجوم محطات راحة للآلهة. وصنع الشمس والقمر وحدد لهما مساريهما. ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كنغو،حيث قتله، وافرج عن بقية الأسرى بعد أن اعترفوا بأن المحرض الأول هو كنغو، كما خلق الحيوانات والنبات. ونظم الآلهة في فريقين، جعل الفريق الأول في السماء وهو الانوناكي، والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم الأيجيجي.
بعد الانتهاء من عملية الخلق، يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيداً للكون. بنوا مدينة هي بابل، ورفعوا له في وسطها معبداً تناطح ذروته السحاب هو معبد الايزاجيلا. وفي الاحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.
قبل التكلم عن أسطورة الخلق البابلية واجب علينا إلقاء الضوء علي محيطها البيئي. لأنه كما هو معروف علمياً ليس لأي اختراع وإبداع إنساني، مهما صغر شأنه، مفهوم وأساس إلا بالدوافع الجغرافية والبشرية والتقدمية. يقول أنطون سعادة: "لا يمكن، مثلاً، أن تكون العجلة التي كان اختراعها خطوة كبيرة في ارتقاء التمدن، قد استنبطت في الصحراء، لأن، استنباطها يقتضي وجود أخشاب صلبة كالسنديان وغيره مما لا وجود له في الصحراء. وهي لا يمكن أن تنتشر بجميع أشكالها في الصحراء، لأنها لا توافق خصائص رمالها". كما يضيف قائلاً: "ان من أهم مؤثرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنها أهم عامل في تكوين شخصية الجماعة".
لقد تصور كتاب أساطير ما بين النهرين، العالم كما يرون اليوم جنوب العراق من منطقة شط العرب. هناك بعد أن تمر مياه الرافدين العذبة في سهول العراق تختلط بمياه الخليج الفارسي المالحة (أو النهر المر) وتخيم الغيوم المنخفضة في الأفق. كانت الأرض بالنسبة لأهل الحضارة البابلية قرصاً مسطحاً بسوار من الجبال. سلسلة زغروس من الشرق وطوروس من الشمال ولبنون من الغرب وعلى هذه السلاسل الجبلية الثلاث ترتكز قبة السماء وكأنها غطاء للأرض وفيها تجول الأجرام السماوية. وجميع هذا الكون تصوروه قائماً في محيط كوني مالح. كل الأرض لم تكن بالنسبة إليهم سوى الهلال الخصيب
لم يكن اختيار الوطن للبابليين- السوريين قراراً عبثياً، بل ملازماً لطبيعة المسيرة الطبيعية. فسورية (الهلال الخصيب) تتمتع بميزات طبيعية جعلت منها مركزاً أساسياً وبؤرة حضارية مميزة، تصلح لتفاعل بشري على جميع صعد أوجه هذا التفاعل.
إن البشائر الأولى لبداية الحضارة، قد انطلقت من سورية، حيث اثبتت الحفريات الأثرية أن أولى تجمعات البشرية المستقرة وأولى القرى المبنية في السهول المفتوحة قد قامت في سورية الجنوبية في فلسطين ووادي الأردن خلال الألف العاشر والألف التاسع قبل الميلاد. وان أولى القرى المكتملة هي أريحا التي استمرت آهلة بالسكان مذ عام 8350 ق.م. حتى عام 7350 ق. م.
ومع بداية الألف السادس قبل الميلاد نرى انتقالاً لمكز الثقل الحضاري في سورية باتجاه وادي الرافدين، حيث نرى ما بين الفترة الممتدة من 5500 إلى 4500 قبل الميلاد نشأت ثلاث حضارات تتابعت وتداخلت هي: حسونة وسامرّاء وتل حلف. في حوالي 4500 قبل الميلاد تنهار حضارة تل حلف مهيئة لظهور الحضارة السومرية على موقع تل العبيد جنوبي وادي الرافدين.
كان السومريون أول من أسس لمجتمع المدينة في تاريخ الحضارة، إلا أنهم لم يعنوا بتشكيل دولة قوميّة تجمع شتات دويلات المدن التي عاشت في شقاق دائم وحروب دامية فيما بينها. وعندما تنبه المجتمع السومري إلى ضرورة التوحيد، كانت حضارته تقطع أشواطها الأخيرة في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد و كان الأكاديون الساميون الذين بدأوا بتنظيم مجتمعهم في شمال سومر يتحفزون لقطف ثمار الحضارة السومرية التعبة.
في ظل هذه الأجواء التاريخية جاءت أساطير البابليين لتثبيت عبادة إلههم الجديد "مردوخ" ولتكمل أعظم تراث بشري لم تقدر التخلي عنه لأنه جزءاً من ثقافتها ومن دمها.
الاينوما ايليش:
تعتبر أسطورة الخليقة البابلية أندر وأعرق وأوسع أسطورة خليقة في العالم القديم، وهي بسبب عراقتها هذه كانت مصدراً أساسياً لأغلب أساطير التكوين في ذلك الوقت.
اسم هذه الأسطورة مأخوذ، كما هي عادة البابليين، من الكلمات الافتتاحية للنص. فاينوما ايليش تعني: عندما في الأعالي.
الملحمة تركبت من عدة أساطير سومريّة بنت عليها العبقرية البابلية ذلك الهيكل الشامخ، الذي يعطي خلاصة عن علم وفكر وفلسفة وفن شعب عريق في مجالات هامة عدة.
وجدت الملحمة موزعة على سبعة ألواح فخارية، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال مكتبته التي احتوت على مئات الألواح في شتى الموضوعات الأدبية والدينية والقانونية… وقد جرى الكشف عن الألواح تباعاً منذ نهاية القرن الماضي وحتى نهاية الربع الأول من القرن الحالي، أما تاريخ كتابتها فيعود إلى مطلع الألف الثاني ق.م. أي قبل ألف وخمسمئة سنة تقريباً من كتابة الألياذة لهوميروس، وتدوين أسفار التوراة العبرانية.
وسوف نعرض الآن ملخص هذه الأسطورة الشعرية العظيمة:
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة: "ابسو" و "تعامة" و "ممو". فأبسو هو الماء العذب، وتعامة زوجته كانت الماء المالح، أما ممو، فيعتقد البعض بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى، و البعض الآخر بانه الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون وهي العماء الأول الذي انبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية. لا تمايز فيها ولا تشكل. ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد لآبسو وتعامة الهان جديدان هما "لخمو" و"لخامو" وهذان بدورهما أنجبا "انشار" و "كيشار" اللذين فاقا ابويهما قوة ومنعة. وبعد سنوات مديدة ولد لأنشار وكيشار ابن اسمياه "آنو" وهو الذي صار فيما بعد الهاً للسماء. وآنو بدروه انجب انكي أو أيا، وهو إله الحكمة والفطنة، والذي غدا فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية. ولقد بلغ ايا حداً من القوة والهيبة، جعله يسود حتى على آبائه.
وهكذا امتلأت أعماق الآلهة تعامة بالآلهة الجديدة، المليئة بالشباب والحيوية، والتي كانت في فعالية دائمة وحركة دائبة، مما غير الحالة السابقة وأحدث وضعاً جديداً، لم تألفه آلهة السكون البدائية، التي عكرت صفوها الحركة، وأقلقت سكونها. حاولت الآلهة البدئية السيطرة على الموقف واستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثاً، الأمر الذي دفعها للعنف. فقام آبسو بوضع خطة لابادة النسل الجديد والعودة للنوم مرة أخرى. وباشر بتنفيذ خطته، رغم معارضة تعامة التي ما زالت تكن بعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات آبسو، خاف الآلهة الشباب واضطربوا. ولم يخلصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم، الإله ايا، الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه، تحميهم من بطش آبائهم، ثم صنع تعويذة سحرية ألقاها على آبسو الذي راح في سبات عميق. وفيما هو نائم، قام ايا بنزع العمامة الملكية عن رأس آبسو، ووضعها على رأسه رمزاً لسلطانه الجديد. كما نزع عن آبسو أيضاً اللقب الإلهي واسبغه على نفسه، كما انقض على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لآبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب. ومنذ ذلك الوقت صار ايا إلهاً للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، ويتحكم به بمقدار، وهو الذي يعطي الانهار والجداول والبحيرات ماءها العذب. وهو الذي يفجر الأرض عيوناً من مسكنه الباطني. ومنذ ذلك الوقت أيضاً، يشاهد ممو فوق المياه الأنهار والبحيرات لأن ايا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام، ولد الإله مردوخ أعظم آلهة بابل، الذي أنقذهم مرة أخرى من بطش الآلهة القديمة، ورفع نفسه سيداً للمجمع المقدس. وكيف لا وهو ابن ايا (انكي) الذي فاق أباه قوة وحكمة وبطشاً. وكما كان الانقاذ الأول على يد الأب انكي، كذلك كان الانقاذ الثاني على يد الابن الشاب مردوخ. فتعامة التي تركت زوجها آبسو لمصيره المحزن دون ان تهرع لمساعدته وهو يذبح على يد الآلهة الصغيرة تجد نفسها الآن مقتنعة بضرورة السير على نفس الطريق لأن الآلهة الصغيرة لم تغير مسلكها، بل زادها انتصارها ثقة وتصميماً على أسلوبها في الحياة. وهنا اجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرضتها على حرب أولئك المتمردين على التقاليد الكونية فوافقت وشرعت بتجهيز جيش عرم قوامه أحد عشر نوعاً من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصيصاً لساعة الصدام، أفاعٍ وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة، جعلت عليها الإله "كينغو" قائداً، بعد ان اختارته زوجاً لها، وعلقت على صدره ألواح الأقدار.
علم الفريق الآخر بما تخطط له تعامة وصحبها فاجتمعوا خائفين قلقين،وأرسلوا الإله ايا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية. ولكن ايا عاد مذعوراً مما رأى، فأرسلوا آنو الذي مضى وعاد في حالة هلع شديد. وهنا خطر لكبيرهم انشار خاطر جعل أساريره تتهلل اذ تذكر مردوخ، الفتى القوي العتي، فارسل في طلبه حالاً.وعندما مثل بين يديه وعلم بسبب دعوته، أعلن عن استعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على اعطائه امتيازات وسلطات استثنائية. فكان له ما أراد. وجلسوا جميعاً حول مائدة الشراب وقد اطمأنت قلوبهم لقيادة الإله الشاب.
أعطى الآلهة، مردوخ، قوة تقرير المصائر، بدلاً من انشار. وأعطوه قوة الكلمة الخالقة. ولكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة، أتوا بثوب وضعوه في وسطهم وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى. هنا تأكد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. فأقاموا له عرشاً يليق بألوهيته، وأعلوه سيداً عليهم جميعاً، ثم أسلموه الطريق إلى تعامة. وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوساً وجعبة وسهاماً وهراوة، كما صنع شبكة هائلة، أمر الرياح الأربعة أن تمسكها من أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق، وأرسل البرق أمامه، يشق له الطريق. دفع أمامه الأعاصير العاتية أطلق طوفان المياه. وانقض طائراً بعربته الإلهية وهي العاصفة الرهيبة التي لا تصد، منطلقاً نحو تعامة، والآلهة تتدافع من حوله تشهد مشهداً عجيباً.
عندما التقى الجمعان، طلب مردوخ قتالاً منفرداً مع تعامة، فوافقت عليه، ودخل الاثنان حالاً في صراع مميت (راجع الملحق، رسم رقم 3-4) . وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولة على الرياح، وعندما فتحت فمها لالتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانفتحت وامتنع عليها الحراك. وهنا أطلق الرب من سهامه واحداً تغلغل في حشاها وشطر قلبها. وعندما تهاوت على الأرض أجهز على حياتها، ثم التفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد، وسلبه ألواح الأقدار وعلقها على صدره. وهنا تمزق جيش تعامة شر تمزيق، وفر معظمه يطلب نجاة لنفسه، ولكن مردوخ طاردهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر.
بعد هذا الانتصار المؤزر على قوة السكون والسلب والفوضى، التفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولة الأولى، إلى حالة النظام والترتيب، حالة الحركة والفعالية و الحضارة. عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأملها، ثم أمسك بها وشقها شقين، رفع النصف الأول فصار سماء وسوى النصف الثاني فصار أرضاً. ثم التفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق. فخلق النجوم محطات راحة للآلهة. وصنع الشمس والقمر وحدد لهما مساريهما. ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كنغو،حيث قتله، وافرج عن بقية الأسرى بعد أن اعترفوا بأن المحرض الأول هو كنغو، كما خلق الحيوانات والنبات. ونظم الآلهة في فريقين، جعل الفريق الأول في السماء وهو الانوناكي، والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم الأيجيجي.
بعد الانتهاء من عملية الخلق، يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيداً للكون. بنوا مدينة هي بابل، ورفعوا له في وسطها معبداً تناطح ذروته السحاب هو معبد الايزاجيلا. وفي الاحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.