عن تلك الصورة التي ستبقى بعد الكارثة
البشر يعتادون كلّ شيء. حتى مشاهد موتهم على شاشات التلفزيون. الصورة الأولى فظيعة تصيب المشاهد بالذهول، بالغثيان. الثانية تثير غضبه الشديد. الثالثة مؤلمة جداً... وهكذا إلى أن تصبح الصور متشابهة، ومفعولها شبه معدوم. ننظر إلى الجثث والأشلاء بفعل العادة من دون أن نراها. نسمع المرأة تستنجد وتولول وتلطم وتصرخ: يا ناس! نقول: يا حرام الشوم. ونقلب المحطة. «الجمرة لا تؤلم إلا مطرح ما بتوقع»! فلنتفرّج على مباراة في كرة السلّة هنا، أو نتابع أبراج ماغي فرح، في انتظار أيّام أفضل.
الشاشات العربيّة القليلة التي بذلت كل ما بوسعها لتسليط الضوء على «غزّة تحت النار» (تحيّة إلى «الجزيرة» وأخواتها)... وفتحت هواءها لنقل هول الكارثة، هل تستطيع شيئاً في الحقيقة؟ القتلة يعرفون، ومعهم الضمير العالمي المتواطئ كعادته، ومثلهم الإعلام «الحيادي» و«الموضوعي»، والإعلام الرسمي العربي على أنواعه، يعرفون أن ما يحدث في غزّة «فصل ويمرّ». صفحة وتطوى. المهم أن يجري كل شيء بسرعة، وألا ينزل الناس إلى الشارع في العواصم العربيّة. جرعات العنف الأولى موجعة، ثم تصبح مسألة روتينيّة... ألف شهيد؟ عفواً: ألف قتيل؟ ألفان؟ مدينة ربع مدمّرة؟ نصف مدمّرة؟ ماذا يعني ذلك؟ أسابيع، أو أشهراً، وتصبح مجرّد أرقام تضاف إلى أخرى، ومجزرة في سلسلة مجازر لم تعد تخجل أحداً.
لن يحفظ الرأي العام المستكين، ولن يسجّل التاريخ، إلا حقيقة واحدة: «إنّها عمليّة دفاع عن الذات». هذا هو منطق الأقوى: القاتل بريء والضحيّة مذنبة. وعمليّة التزوير الكبرى هذه غير ممكنة من دون الإعلام، عصب المعركة. في اليومين الماضيين، كان يكفي أن يقلّب المرء الأقنية، ليلمس كيف تعمل تلك الآلة المخيفة. هناك فضائيات عربيّة قللت من شأن الكارثة، أو عملت جاهدة على تحميل مسؤوليتها لشعب منتهك تحت القصف... فماذا نتوقّع من المحطات الغربيّة؟ من كان يتوقّع مثلاً من «يورونيوز» التي باتت تبثّ بالعربيّة، أن تسلّط الضوء، ولو بشكل إنساني مهني عابر، على أهل غزّة المحاصرين من كل الجهات؟
ومع ذلك فالصورة تتكلّم وحدها. إذا كان لا بد من الاحتفاظ من هذه الأيام الدامية في الأرض الفلسطينيّة بصورة واحدة، فهي ليست بالضرورة مشاهد الموت والدمار والناس المهرولين والمنتحبين، والجثث الملقاة أرضاً بصفتها «هدفاً صائباً». اللقطة سبقت المذبحة بيومين. وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في زيارة إلى الرئيس حسني مبارك. نراها جالسة إلى يساره، واثقة ومتغطرسة، مسترخية ومنفرجة الأسارير، ديناميكيّة ورشيقة تمدّ جسمها كلّه إلى الأمام كي تسهّل المصافحة الشهيرة مع مضيفها... زوم تدريجي على الرئيس المصري: مبارك ثابت في مقعده كتمثال، فقط الرقبة تتحرّك، ملامحه متجمّدة، عيناه غائرتان: ترى بماذا كان يفكّر المصوّر الواقف خلف الكاميرا وهو يخلّد هذه اللحظة؟
البشر يعتادون كلّ شيء. حتى مشاهد موتهم على شاشات التلفزيون. الصورة الأولى فظيعة تصيب المشاهد بالذهول، بالغثيان. الثانية تثير غضبه الشديد. الثالثة مؤلمة جداً... وهكذا إلى أن تصبح الصور متشابهة، ومفعولها شبه معدوم. ننظر إلى الجثث والأشلاء بفعل العادة من دون أن نراها. نسمع المرأة تستنجد وتولول وتلطم وتصرخ: يا ناس! نقول: يا حرام الشوم. ونقلب المحطة. «الجمرة لا تؤلم إلا مطرح ما بتوقع»! فلنتفرّج على مباراة في كرة السلّة هنا، أو نتابع أبراج ماغي فرح، في انتظار أيّام أفضل.
الشاشات العربيّة القليلة التي بذلت كل ما بوسعها لتسليط الضوء على «غزّة تحت النار» (تحيّة إلى «الجزيرة» وأخواتها)... وفتحت هواءها لنقل هول الكارثة، هل تستطيع شيئاً في الحقيقة؟ القتلة يعرفون، ومعهم الضمير العالمي المتواطئ كعادته، ومثلهم الإعلام «الحيادي» و«الموضوعي»، والإعلام الرسمي العربي على أنواعه، يعرفون أن ما يحدث في غزّة «فصل ويمرّ». صفحة وتطوى. المهم أن يجري كل شيء بسرعة، وألا ينزل الناس إلى الشارع في العواصم العربيّة. جرعات العنف الأولى موجعة، ثم تصبح مسألة روتينيّة... ألف شهيد؟ عفواً: ألف قتيل؟ ألفان؟ مدينة ربع مدمّرة؟ نصف مدمّرة؟ ماذا يعني ذلك؟ أسابيع، أو أشهراً، وتصبح مجرّد أرقام تضاف إلى أخرى، ومجزرة في سلسلة مجازر لم تعد تخجل أحداً.
لن يحفظ الرأي العام المستكين، ولن يسجّل التاريخ، إلا حقيقة واحدة: «إنّها عمليّة دفاع عن الذات». هذا هو منطق الأقوى: القاتل بريء والضحيّة مذنبة. وعمليّة التزوير الكبرى هذه غير ممكنة من دون الإعلام، عصب المعركة. في اليومين الماضيين، كان يكفي أن يقلّب المرء الأقنية، ليلمس كيف تعمل تلك الآلة المخيفة. هناك فضائيات عربيّة قللت من شأن الكارثة، أو عملت جاهدة على تحميل مسؤوليتها لشعب منتهك تحت القصف... فماذا نتوقّع من المحطات الغربيّة؟ من كان يتوقّع مثلاً من «يورونيوز» التي باتت تبثّ بالعربيّة، أن تسلّط الضوء، ولو بشكل إنساني مهني عابر، على أهل غزّة المحاصرين من كل الجهات؟
ومع ذلك فالصورة تتكلّم وحدها. إذا كان لا بد من الاحتفاظ من هذه الأيام الدامية في الأرض الفلسطينيّة بصورة واحدة، فهي ليست بالضرورة مشاهد الموت والدمار والناس المهرولين والمنتحبين، والجثث الملقاة أرضاً بصفتها «هدفاً صائباً». اللقطة سبقت المذبحة بيومين. وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في زيارة إلى الرئيس حسني مبارك. نراها جالسة إلى يساره، واثقة ومتغطرسة، مسترخية ومنفرجة الأسارير، ديناميكيّة ورشيقة تمدّ جسمها كلّه إلى الأمام كي تسهّل المصافحة الشهيرة مع مضيفها... زوم تدريجي على الرئيس المصري: مبارك ثابت في مقعده كتمثال، فقط الرقبة تتحرّك، ملامحه متجمّدة، عيناه غائرتان: ترى بماذا كان يفكّر المصوّر الواقف خلف الكاميرا وهو يخلّد هذه اللحظة؟