*
*
لدي رغبة وحيدة أن أموت أو أجد من يقتلني
في منزل صاحب «المصابيح الزرق»
الكاتبه الصحفيه سعاد جروس
الطريق إلى منزل حنا مينه يتطلب صعود ما يشبه تلة. ثمة هواء نقي يشكل
متنفسا لبحار الرواية السورية، وكأنه في ابتعاده عن مركز المدينة، يستعير
بقعة فسيحة يرتاح فيها من الضجيج والتلوث، على طرف مساكن «برزة». منزل بسيط، يشبه إلى حد بعيد صاحبه، الذي أمضى عمره يكتب عن الفقراء
والبحر. إلا أن بساطة حنا مينه ليست متأتية من فقر، فهو لا يفتأ يكرر
جملته: «أربح الكثير وأصرف الكثير». ومن يطأ عتبة بابه، لا بد يدرك معنى
هذه الكلمة، من حسن الاستقبال إلى كرم الضيافة.
«لا قيمة لشيء سوى الكلمة»، هكذا قال لنا حنا مينه حين احتد الحوار، ونحن
نجالسه في مكتبه الصغير تتناثر حوله كتبه وحاجياته: «أهم شيء عندي الكلمة،
أنا لم أكتب يوماً حرفاً لم اقتنع به، ولا أكتب للسلطة». عشقه للكلمة جعله
يتأنق بها، فتدفقت في رواياته سلسلة، تؤدي رقصتها الشعرية برشاقة نادرة.
كتب عن نفسه وعائلته التي تشردت من لواء اسكندرون.. عن والدته ماريانا
ميخائيل زكور، قبل أن يمخر عباب الرواية مواجهاً عين العاصفة، أبطاله من
لحم ودم، نراهم حيث تلفتنا؛ قبضايات وشجعان، فقراء المال وأغنياء النفس،
بطلاته عاهرات الجسد عزيزات الروح. كتب عن العوالم السفلية للمرافئ ومدن
الساحل المفتوحة على أهوال البحر، وانتقم لطفولته البائسة، ولأخواته
الخادمات، انتقم للقهر والتشرد الذي لقيه في ميعة الصبا، لكنه انتقام
المحب المتعاطف، لا الحاقد الناقم.
ها هو الآن يعيش سنته الثانية بعد الثمانين، ويقول وكأنه يتحدث عن شخص
آخر: «حنا مينه، هذه الأيام، يتذكر ماضيه وأخواته». هذا الماضي يعرفه كل
من قرأ رواياته التي سعى من خلالها إلى إبراز الوجه الإنساني في عوالم
تنتهك فيها الحقوق الإنسانية وينحطّ البشر. هذا سر الشغف برواياته التي لا
تزال على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً محلياً وعربياً. أكد مينه دائماً، وها
هو يقول لنا من جديد، إنه مرتبط بعقد مع «دار الآداب»، ورواياته تدر عليه
مالاً وفيراً، ينفقه بالكامل، ولا يحتاج إلى شيء سوى معرفة: «ما الذي
أريده من الحياة؟! لغاية الآن لا أعرف ماذا أريد؟! رغم بلوغي أرذل العمر»،
ويتابع «لدي رغبة وحيدة هي أن أموت أو أجد من يقتلني، وأنا مستعد لدفع نصف
مليون ليرة سورية مكافأة لمن يقتلني». الأمر يبدو لنا عبثياً فنبدي
استعدادنا لنشر إعلان يقول: «حنا مينه يبحث عن قاتل يخلصه من نفسه»، هذا
إذا لم يتراجع عن رغبته. ينتفض حنا مينه ويغضب من قولتنا هذه ويجيب: «حنا
مينه لم ولن يتراجع أبداً عن كلمة يقولها». لم يتوقف حنا عن الكتابة، له في كل عام رواية جديدة، آخرها كان «الذئب
الأسود». يأتي قراؤه بالعشرات إلى معرض الكتاب السنوي في دمشق ليحصلوا على
رواية ممهورة بتوقيعه وبضع كلمات يعتبرونها أثمن ما تحتويه مكتباتهم، رغم
ما يوجه إليه من نقد لاذع، حول تكرار نفسه في السنوات العشر الأخيرة. فمنذ
بدأ العمر يتقدم به نحو العقد الثامن، لم تعد علاقته بالعالم الخارجي كما
كانت، بات يمضي جل وقته في المنزل بعدما غادر عمله في وزارة الثقافة منذ
عدة سنوات، عدا ظهر يوم الخميس حيث يقضي بضع ساعات في مقهى البرازيل بفندق
الشام، يلتقي الأصدقاء والصحافيين الذين يستقبلهم في بيته أيضاً.يحدثنا مينه عن صحافي نشر معه حواراً كاملاً، دون أن يلتقي به.. يضحك
مستهزئاً: «أنا أتفهم لماذا يفعلون هذا، يعتقدون أنه لا بد له من إجراء
حوار معي وحين لا أعطيهم حواراً، يجرونه وحدهم». نعلق منتهزين الفرصة:
«عندما ننشر حوارنا معك لا تقل إنك لا تعرفنا». مع أن زيارتنا لشيخ
الرواية لم تكن لغايات صحافية، لكن إغواء الكتابة عن عالم هذا المبدع يكاد
لا يقاوم. يتنهد قليلاً ويجيب واصفاً نفسه: «حنا مينه طويل البال، عندما أصدرت دار
الحوار للنشر كتاباً يقول إنني سرقت حكاية بحار، أشار علي الأصدقاء برفع
دعوى قضائية، لم أفعل لأني طويل البال. هناك شاعر صرف خمساً وعشرين سنة
وهو يشتمني، وعندما لم يجد فائدة من ذلك جاء الى في بيتي، فاستقبلته
وقبلته. كانوا يقولون حنا كافر، وأنا أقول لا يوجد إنسان كافر، كل واحد
يؤمن بشيء، الشيوعيون أيضاً لديهم قضية يؤمنون بها».يرشف من فنجان القهوة ومن كأس بجوارها. لم يكن فنجان القهوة هو ذاته الذي
أخبرنا في مرة سابقة أنه فنجان قهوة أمه الذي ما زال يحتفظ به منذ خمسين
عاماً، نسأله عنه فيجيب: «إنه في المتحف، انكسر ورممته ووضعته في
الفيترينا، كان لدي أحلام كبيرة كان همي إقامة متحف بحري».
لكن رواياتك هي خير من وثق حياة البحر والمرافئ، يقاطعنا: «ما نزلت البحر إلا والعواصف هائجة». على طاولة صغيرة احتلت زاوية جانبية من غرفة المكتب المكتظة بالكتب
واللوحات والصور التذكارية والعائلية، اصطفت علبتا دخان احداهما وطنية؛
تبغه المفضل، والأخرى فرنسية، الى جانب فنجان القهوة وكؤوس ماء وشراب.
يستل سيجارة ليشعلها، ونسأله: كم علبة تدخن في اليوم؟ يجيبنا: «الذي يسكر
لا يعد الأقداح». نعاود ونسأله: لماذا تدخن نوعين من التبغ في وقت واحد.
يقول: «لأني مجنون... رزقت أمي بثلاث بنات كن في ذلك الوقت ثلاث مصائب،
فطلبت من ربها أن ترزق بصبي كيف ما كان يكون، فجئت أنا هكذا كيفما اتفق».تعيّن على الطفل الذي جاء الى الدنيا كيفما اتفق عام 1924 أو بالخطأ، كما
يعود ويؤكد، أن يهاجر مع عائلته من اللاذقية الى مدينة السويدية في لواء
اسكندرون، ومن ثم الى الريف ليدخل في الثامنة من عمره المدرسة، وينال
الابتدائية عام 1936، ويوقف دراسته. لم يكن بالإمكان إرساله لمتابعة
تعليمه، بالكاد كان لديه «صندل» ينتعله شتاء، فيما يمضي شهور الصيف
حافياً. فالأب كان حمالاً في المرفأ، وأحياناً بائعاً للحلوى أو أجيراً في
بستان؛ وكثيراً ما كان يترك عائلته ويرحل بحثاً عن عمل، لتبقى الأم تعاني
مع أطفالها من الخوف والجوع، ما اضطر حنا للعمل في سن مبكرة، فاشتغل مثل
أبيه حمالاً في المرفأ وكسب قروشاً زاد دخل الأسرة المؤلف من قروش أخرى هي
أجرة أخواته، وغلة أبيه. ولاحقاً اشتغل في دكان حلاق، واقتصر عمله على شد
حبل مروحة كرتون مكشكشة بالورق الملون لإبعاد الذباب وتجفيف عرق الزبائن.في الدكان تفتحت مواهبه فاحترف كتابة الرسائل للجيران، كونه الوحيد الذي
يفك الحرف في حي «المستنقع» الذي عاش فيه، قبل أن ينتقل من اللاذقية الى
دمشق 1947، ويعمل في الصحافة، والأدب وتبدأ رحلة تشرده من أوروبا الى
الصين. وكان لأولى رواياته «المصابيح الزرق» عميق الأثر وبالأخص لدى
الشباب الثوري.قلت له: روايتك «المصابيح الزرق» كانت أول رواية سورية أقرأها، و«بقايا
صور» أثرت في كثيراً، لكن الرواية التي أبكتني هي «الربيع والخريف» حين
وصفت نكسة حزيران. علق على كلامي: «أما أنا فالرواية التي أبكتني كثيراً
هي «حمامة زرقاء في السحب» إنها قصة ابنتي التي أصيبت بالسرطان، وأخفيت
الأمر عن أهلي لمدة عامين، عندما أخذتها للعلاج في الخارج، قالت لي: لا
أريد ان اضيع مستقبلي..». لا يخفي حنا مرارة الذكرى ولا تلك الدموع التي
خطرت على شفير الجفون، تهدج صوته برعشة حزينة: «لم اعرف ربي إلا عندما شال
ابنتي سنة 1982...». تعثرت الكلمات في فمه. حاولنا الهرب من ذكرى مؤلمة
عاودته إلى الحديث عن بناته الثلاث سلوى وسوسن وأمل، طبيبتين ومهندسة،
متزوجات ولا ينقطعن عن زيارته. ثم سألناه عن وحيده الممثل سعد مينه، الذي
استقل في بيت آخر استعداداَ للزواج، جميع أفراد العائلة حوله مع زوجته
الطيبة مريم التي لم تفارقه أبداً، «البيت حوله ممتلئ دائماً، إلا ان حبي
الأكبر لسعد، الدنيا ليس فيها سوى سعد». نسأله عن الأصدقاء فيتحدث عن لحظة تلقيه نبأ وفاة محمد الماغوط: «كنت
مستلقياً بعد الظهر حين رن الهاتف هرعت لأستطلع من المتصل، جاءني صوت
مراسلة صحافية، تخبرني أن الماغوط توفي، فأجهشت بالبكاء غير مصدق، فقالت
لي دع البكاء لوقت آخر أعطني الآن تصريحاً صحافياً!! محمد صديقي، أحبه
كثيراً، سألته إن كان يقبل أن أرشحه لنيل جائزة، وكان عنده أنفة وعزة نفس،
قال لي: لا ترشحني إذا تذكروني كان به. وفعلاً تذكروه ونال جائزة، الله
يرحمك يا محمد».تداعت الذكريات لتصل إلى نزار قباني فترحم عليه مردداً قول بدوي الجبل فيه
«إنه آخر سيف دمشقي معلق على الجدار»، كما مر على ذكر المرحوم القصاص
البارز سعيد حورانية فوصفه بـ«الزكرت» (أي الشهم). ثم سألناه عن الأحياء
وقصته مع اتحاد الكتاب. فرمقنا بنظرة من خلف دخان سيجارته قبل أن يعود
ويطرق بنظره: «أنا أسبح في السياسة كما تسبح السمكة في الماء. لقد انسحبنا
من الاتحاد أنا وسعد الله ونوس من أجل أدونيس. كان همه الحصول على جائزة
نوبل ومستعد لأي شيء من أجل ذلك». يشرد قليلاً، ويعيد ممازحاً، كلاماً لسعيد عقل سمعه منه مستحضراً نبرة
صوته الأجش: «إلياس أبو شبكة قال عنك إنك عبقري؟ ولذا لم أزره بالمستشفى،
لأن ليس هناك سوى عبقري واحد هو سعيد عقل. أنت يا حنا تستحق جائزتي، لكنك
سوري. يتبع كلامه بضحكة قصيرة: أحب سعيد عقل».يتشتت الحديث مع ندف الذاكرة، وتحضر الأسماء والشخصيات لأكثر من ساعتين
كانت خارج سياق المألوف، في تدفق حر وعفوي لمبدع لم تهدأ جذوة الثورة في
أعماقه، كذلك لم تخل استشهاداته من أبيات شعر للمتنبي، لنصل الى سؤال مزمن
يلقى على مسامعه، من قبيل المزاح أو الجد، وهو كيف يكرر دائماً أنه لم يحب
امرأة في حياته، ورواياته تعج بالمغامرات العاطفية؟ ينتفض متحديا: «حنا لم
يحب في حياته...».
لكن هناك نساء أحببنك؟
«هذه هي البلية... أنا حساس تجاه المرأة! لو أنني كنت حساساً وقادراً، شيء
جيد. لقد كتبت بجرأة وعلَّمت الجرأة. أسهل طريقة للتحرر من الخطيئة، هو
الاعتقاد بأن كل ما نفعله بصدق هو أخلاقي».
مضت ساعات اللقاء، وكأنها لفرط متعة الصحبة لم تكن سوى لحظة، ودعناه وفي
النفس توق للبقاء. وعلى طريق العودة كان في البال بعض من أشعار رددها على
مسامعنا:
أحمامة تبكي على الصيف
المودع أم علينا
كنا الملوك على الشباب
وكانت الدنيا إلينا
كنا الغصون الخضر
في كف الملاحة والتوينا
*
سمار
*
*
.
*
لدي رغبة وحيدة أن أموت أو أجد من يقتلني
في منزل صاحب «المصابيح الزرق»
الكاتبه الصحفيه سعاد جروس
الطريق إلى منزل حنا مينه يتطلب صعود ما يشبه تلة. ثمة هواء نقي يشكل
متنفسا لبحار الرواية السورية، وكأنه في ابتعاده عن مركز المدينة، يستعير
بقعة فسيحة يرتاح فيها من الضجيج والتلوث، على طرف مساكن «برزة». منزل بسيط، يشبه إلى حد بعيد صاحبه، الذي أمضى عمره يكتب عن الفقراء
والبحر. إلا أن بساطة حنا مينه ليست متأتية من فقر، فهو لا يفتأ يكرر
جملته: «أربح الكثير وأصرف الكثير». ومن يطأ عتبة بابه، لا بد يدرك معنى
هذه الكلمة، من حسن الاستقبال إلى كرم الضيافة.
«لا قيمة لشيء سوى الكلمة»، هكذا قال لنا حنا مينه حين احتد الحوار، ونحن
نجالسه في مكتبه الصغير تتناثر حوله كتبه وحاجياته: «أهم شيء عندي الكلمة،
أنا لم أكتب يوماً حرفاً لم اقتنع به، ولا أكتب للسلطة». عشقه للكلمة جعله
يتأنق بها، فتدفقت في رواياته سلسلة، تؤدي رقصتها الشعرية برشاقة نادرة.
كتب عن نفسه وعائلته التي تشردت من لواء اسكندرون.. عن والدته ماريانا
ميخائيل زكور، قبل أن يمخر عباب الرواية مواجهاً عين العاصفة، أبطاله من
لحم ودم، نراهم حيث تلفتنا؛ قبضايات وشجعان، فقراء المال وأغنياء النفس،
بطلاته عاهرات الجسد عزيزات الروح. كتب عن العوالم السفلية للمرافئ ومدن
الساحل المفتوحة على أهوال البحر، وانتقم لطفولته البائسة، ولأخواته
الخادمات، انتقم للقهر والتشرد الذي لقيه في ميعة الصبا، لكنه انتقام
المحب المتعاطف، لا الحاقد الناقم.
ها هو الآن يعيش سنته الثانية بعد الثمانين، ويقول وكأنه يتحدث عن شخص
آخر: «حنا مينه، هذه الأيام، يتذكر ماضيه وأخواته». هذا الماضي يعرفه كل
من قرأ رواياته التي سعى من خلالها إلى إبراز الوجه الإنساني في عوالم
تنتهك فيها الحقوق الإنسانية وينحطّ البشر. هذا سر الشغف برواياته التي لا
تزال على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً محلياً وعربياً. أكد مينه دائماً، وها
هو يقول لنا من جديد، إنه مرتبط بعقد مع «دار الآداب»، ورواياته تدر عليه
مالاً وفيراً، ينفقه بالكامل، ولا يحتاج إلى شيء سوى معرفة: «ما الذي
أريده من الحياة؟! لغاية الآن لا أعرف ماذا أريد؟! رغم بلوغي أرذل العمر»،
ويتابع «لدي رغبة وحيدة هي أن أموت أو أجد من يقتلني، وأنا مستعد لدفع نصف
مليون ليرة سورية مكافأة لمن يقتلني». الأمر يبدو لنا عبثياً فنبدي
استعدادنا لنشر إعلان يقول: «حنا مينه يبحث عن قاتل يخلصه من نفسه»، هذا
إذا لم يتراجع عن رغبته. ينتفض حنا مينه ويغضب من قولتنا هذه ويجيب: «حنا
مينه لم ولن يتراجع أبداً عن كلمة يقولها». لم يتوقف حنا عن الكتابة، له في كل عام رواية جديدة، آخرها كان «الذئب
الأسود». يأتي قراؤه بالعشرات إلى معرض الكتاب السنوي في دمشق ليحصلوا على
رواية ممهورة بتوقيعه وبضع كلمات يعتبرونها أثمن ما تحتويه مكتباتهم، رغم
ما يوجه إليه من نقد لاذع، حول تكرار نفسه في السنوات العشر الأخيرة. فمنذ
بدأ العمر يتقدم به نحو العقد الثامن، لم تعد علاقته بالعالم الخارجي كما
كانت، بات يمضي جل وقته في المنزل بعدما غادر عمله في وزارة الثقافة منذ
عدة سنوات، عدا ظهر يوم الخميس حيث يقضي بضع ساعات في مقهى البرازيل بفندق
الشام، يلتقي الأصدقاء والصحافيين الذين يستقبلهم في بيته أيضاً.يحدثنا مينه عن صحافي نشر معه حواراً كاملاً، دون أن يلتقي به.. يضحك
مستهزئاً: «أنا أتفهم لماذا يفعلون هذا، يعتقدون أنه لا بد له من إجراء
حوار معي وحين لا أعطيهم حواراً، يجرونه وحدهم». نعلق منتهزين الفرصة:
«عندما ننشر حوارنا معك لا تقل إنك لا تعرفنا». مع أن زيارتنا لشيخ
الرواية لم تكن لغايات صحافية، لكن إغواء الكتابة عن عالم هذا المبدع يكاد
لا يقاوم. يتنهد قليلاً ويجيب واصفاً نفسه: «حنا مينه طويل البال، عندما أصدرت دار
الحوار للنشر كتاباً يقول إنني سرقت حكاية بحار، أشار علي الأصدقاء برفع
دعوى قضائية، لم أفعل لأني طويل البال. هناك شاعر صرف خمساً وعشرين سنة
وهو يشتمني، وعندما لم يجد فائدة من ذلك جاء الى في بيتي، فاستقبلته
وقبلته. كانوا يقولون حنا كافر، وأنا أقول لا يوجد إنسان كافر، كل واحد
يؤمن بشيء، الشيوعيون أيضاً لديهم قضية يؤمنون بها».يرشف من فنجان القهوة ومن كأس بجوارها. لم يكن فنجان القهوة هو ذاته الذي
أخبرنا في مرة سابقة أنه فنجان قهوة أمه الذي ما زال يحتفظ به منذ خمسين
عاماً، نسأله عنه فيجيب: «إنه في المتحف، انكسر ورممته ووضعته في
الفيترينا، كان لدي أحلام كبيرة كان همي إقامة متحف بحري».
لكن رواياتك هي خير من وثق حياة البحر والمرافئ، يقاطعنا: «ما نزلت البحر إلا والعواصف هائجة». على طاولة صغيرة احتلت زاوية جانبية من غرفة المكتب المكتظة بالكتب
واللوحات والصور التذكارية والعائلية، اصطفت علبتا دخان احداهما وطنية؛
تبغه المفضل، والأخرى فرنسية، الى جانب فنجان القهوة وكؤوس ماء وشراب.
يستل سيجارة ليشعلها، ونسأله: كم علبة تدخن في اليوم؟ يجيبنا: «الذي يسكر
لا يعد الأقداح». نعاود ونسأله: لماذا تدخن نوعين من التبغ في وقت واحد.
يقول: «لأني مجنون... رزقت أمي بثلاث بنات كن في ذلك الوقت ثلاث مصائب،
فطلبت من ربها أن ترزق بصبي كيف ما كان يكون، فجئت أنا هكذا كيفما اتفق».تعيّن على الطفل الذي جاء الى الدنيا كيفما اتفق عام 1924 أو بالخطأ، كما
يعود ويؤكد، أن يهاجر مع عائلته من اللاذقية الى مدينة السويدية في لواء
اسكندرون، ومن ثم الى الريف ليدخل في الثامنة من عمره المدرسة، وينال
الابتدائية عام 1936، ويوقف دراسته. لم يكن بالإمكان إرساله لمتابعة
تعليمه، بالكاد كان لديه «صندل» ينتعله شتاء، فيما يمضي شهور الصيف
حافياً. فالأب كان حمالاً في المرفأ، وأحياناً بائعاً للحلوى أو أجيراً في
بستان؛ وكثيراً ما كان يترك عائلته ويرحل بحثاً عن عمل، لتبقى الأم تعاني
مع أطفالها من الخوف والجوع، ما اضطر حنا للعمل في سن مبكرة، فاشتغل مثل
أبيه حمالاً في المرفأ وكسب قروشاً زاد دخل الأسرة المؤلف من قروش أخرى هي
أجرة أخواته، وغلة أبيه. ولاحقاً اشتغل في دكان حلاق، واقتصر عمله على شد
حبل مروحة كرتون مكشكشة بالورق الملون لإبعاد الذباب وتجفيف عرق الزبائن.في الدكان تفتحت مواهبه فاحترف كتابة الرسائل للجيران، كونه الوحيد الذي
يفك الحرف في حي «المستنقع» الذي عاش فيه، قبل أن ينتقل من اللاذقية الى
دمشق 1947، ويعمل في الصحافة، والأدب وتبدأ رحلة تشرده من أوروبا الى
الصين. وكان لأولى رواياته «المصابيح الزرق» عميق الأثر وبالأخص لدى
الشباب الثوري.قلت له: روايتك «المصابيح الزرق» كانت أول رواية سورية أقرأها، و«بقايا
صور» أثرت في كثيراً، لكن الرواية التي أبكتني هي «الربيع والخريف» حين
وصفت نكسة حزيران. علق على كلامي: «أما أنا فالرواية التي أبكتني كثيراً
هي «حمامة زرقاء في السحب» إنها قصة ابنتي التي أصيبت بالسرطان، وأخفيت
الأمر عن أهلي لمدة عامين، عندما أخذتها للعلاج في الخارج، قالت لي: لا
أريد ان اضيع مستقبلي..». لا يخفي حنا مرارة الذكرى ولا تلك الدموع التي
خطرت على شفير الجفون، تهدج صوته برعشة حزينة: «لم اعرف ربي إلا عندما شال
ابنتي سنة 1982...». تعثرت الكلمات في فمه. حاولنا الهرب من ذكرى مؤلمة
عاودته إلى الحديث عن بناته الثلاث سلوى وسوسن وأمل، طبيبتين ومهندسة،
متزوجات ولا ينقطعن عن زيارته. ثم سألناه عن وحيده الممثل سعد مينه، الذي
استقل في بيت آخر استعداداَ للزواج، جميع أفراد العائلة حوله مع زوجته
الطيبة مريم التي لم تفارقه أبداً، «البيت حوله ممتلئ دائماً، إلا ان حبي
الأكبر لسعد، الدنيا ليس فيها سوى سعد». نسأله عن الأصدقاء فيتحدث عن لحظة تلقيه نبأ وفاة محمد الماغوط: «كنت
مستلقياً بعد الظهر حين رن الهاتف هرعت لأستطلع من المتصل، جاءني صوت
مراسلة صحافية، تخبرني أن الماغوط توفي، فأجهشت بالبكاء غير مصدق، فقالت
لي دع البكاء لوقت آخر أعطني الآن تصريحاً صحافياً!! محمد صديقي، أحبه
كثيراً، سألته إن كان يقبل أن أرشحه لنيل جائزة، وكان عنده أنفة وعزة نفس،
قال لي: لا ترشحني إذا تذكروني كان به. وفعلاً تذكروه ونال جائزة، الله
يرحمك يا محمد».تداعت الذكريات لتصل إلى نزار قباني فترحم عليه مردداً قول بدوي الجبل فيه
«إنه آخر سيف دمشقي معلق على الجدار»، كما مر على ذكر المرحوم القصاص
البارز سعيد حورانية فوصفه بـ«الزكرت» (أي الشهم). ثم سألناه عن الأحياء
وقصته مع اتحاد الكتاب. فرمقنا بنظرة من خلف دخان سيجارته قبل أن يعود
ويطرق بنظره: «أنا أسبح في السياسة كما تسبح السمكة في الماء. لقد انسحبنا
من الاتحاد أنا وسعد الله ونوس من أجل أدونيس. كان همه الحصول على جائزة
نوبل ومستعد لأي شيء من أجل ذلك». يشرد قليلاً، ويعيد ممازحاً، كلاماً لسعيد عقل سمعه منه مستحضراً نبرة
صوته الأجش: «إلياس أبو شبكة قال عنك إنك عبقري؟ ولذا لم أزره بالمستشفى،
لأن ليس هناك سوى عبقري واحد هو سعيد عقل. أنت يا حنا تستحق جائزتي، لكنك
سوري. يتبع كلامه بضحكة قصيرة: أحب سعيد عقل».يتشتت الحديث مع ندف الذاكرة، وتحضر الأسماء والشخصيات لأكثر من ساعتين
كانت خارج سياق المألوف، في تدفق حر وعفوي لمبدع لم تهدأ جذوة الثورة في
أعماقه، كذلك لم تخل استشهاداته من أبيات شعر للمتنبي، لنصل الى سؤال مزمن
يلقى على مسامعه، من قبيل المزاح أو الجد، وهو كيف يكرر دائماً أنه لم يحب
امرأة في حياته، ورواياته تعج بالمغامرات العاطفية؟ ينتفض متحديا: «حنا لم
يحب في حياته...».
لكن هناك نساء أحببنك؟
«هذه هي البلية... أنا حساس تجاه المرأة! لو أنني كنت حساساً وقادراً، شيء
جيد. لقد كتبت بجرأة وعلَّمت الجرأة. أسهل طريقة للتحرر من الخطيئة، هو
الاعتقاد بأن كل ما نفعله بصدق هو أخلاقي».
مضت ساعات اللقاء، وكأنها لفرط متعة الصحبة لم تكن سوى لحظة، ودعناه وفي
النفس توق للبقاء. وعلى طريق العودة كان في البال بعض من أشعار رددها على
مسامعنا:
أحمامة تبكي على الصيف
المودع أم علينا
كنا الملوك على الشباب
وكانت الدنيا إلينا
كنا الغصون الخضر
في كف الملاحة والتوينا
*
سمار
*
*
.