"عم مساءً أيها الرجل الغريب"
يعتبر الشعر المفجر الأقوى للذهن الإبداعي
الشاعر طالب هماش بقلم علي الصيرفي
مهما يكن من أمر ، فإن الشعر استخلص مكانته العالية في عالم الإبداع ، بأنه المتفجر الذهني الأكثر إبداعاً حتى يومنا هذا، وبوسع حامليه القول: إن الشعر يرمي إلى إحداث أعنف التغيرات البائنة في حقل الكلام والصور وحتى الأحاسيس ، فهو ينتزع الفكر من متاهات العادة ومسالكها السهلة ، ويدفعه نحو التنقل في كل اتجاه عبر عوالم العقل ،إلى الماضي والحاضر والمستقبل وبحرية مطلقة ، وإن هذه الأساليب نراها قريبة من مواطن الدقة عند الشاعر طالب هماش في ديوانه الرائع (عم مساءً أيها الرجل الغريب ) حيث الليل والغربة والريح الناحبة في ظلمة ليل تنوح فيه نايات حزينة ومحطمة ، فالهم الإنساني المتزاحم في تفعيلات القصيد عنده يزاحم تعاريج العقل وقوة الفكر، الباحث عن طريق يعبر عالم السلامة- السلامة التي ينشدها الشاعر في شعريته فالحلم يقارب الواقع بل يتفوق عليه بمضامينه المتراكمة عند ضفة الفكر المتطور لدى الشاعر والباحث في كل الأوقات عن صبي شاب يركض مع فكرة تحمل روح البشارة ،أو أنثى تحلم بعودة حبيب بعد طول الغياب ،ومن ملامح رؤية تتعامى فيها قسوة المواجهات ،فالقلوب بريئة تركض خلف فراشات الفكر الصاعد نحو الملائكة التي تتنزل في رجع المواويل ورقصات الغيوم فوق السهول العطشى ، وحزن الفرات النهر المارق غصباً رغم تلك الأيدي التي تقتل كلمات الأمهات عند مهاد صغارها ،وتأبى القلوب أن تصرع ويأبى النهر أن يبث حزنه إلا لمجراه
خذني بمجراك أرملة للخرير !
الذي رعرعته مواويل أمي
وهي تهز سريري
وردده صوتها القروي
أبى النهر أن يتأوه إلا لمجراه بين الصخور ( ص 30)
1 - وتتمزق الصور في بعض الحالات لينتج عنها كتابة تتسم بالاندفاع والقفز فوق التقاليد ، فقوة الشعر عند الشاعر ترجع إلى قوة الكلمة والاختصار الرائع في عرض الوقائع الشعرية ، فهو يعمل من خلال تقنيات مبنية على قوة الكلمات ومهمتها تفكيك هذا الواقع المبهم وربط هذه الشعرية بالنفس لأنها الصورة الحية لكل المتناهيات ، فبين الحلم والواقع وما يظنه الشاعر حالة من الحركة الدائمة تعود بقوتها إلى الصور التي تنمو في مخيلة الشاعر (هماش) ولا يمكن للكلمات التي تجلبها القضية الحياتية أن تسقطها القصيدة في بنائها بل هي تحيط ذاتها بهالة من الجدية ،فهي تتوالد دونما انقطاع من الأخدود الذي خلقته القصيدة. إن شاعرية الأديب طالب هماش ليست رواية للأحلام مهما كان في الحلم من دقة ،إنها شاعرية مفوضة لتكوين مشهد من التوتر والإنهاض، فالأديب ينقاد إلى التمايز في بناء الحلم مختزلاً فيه الواقع بكل تعثره ،جالباً أقانيم اللغة وتراتيل الليالي الباهتة، فهو يعرف أسرار الأحلام وبوح النفس في ساعات القهر ونزف الجسد ، ويقرع بقوة ناقوس التحريض والتحدي فالوقت ينقلب بين اللحظة والأخرى :
سأحرق نفسي بالنار
ثم أجمع هش الرماد
لأدفنه في تميمة صدرك
أماه
كي تبرأ الروح من حزنها المريمي
ويضحل ماء العذب بمجرى الوريد
كأن يصبح العمر بيتاً من الطين
جد حنون ، شتاءٌِ
2 – يشتد الحزن المخزون في قلب الشاعر وتتشقق أخاديد حياته لتخرِّب ملامح وجهه المتعب بالانكسار والعلقم الفج والرحيل إلى خريف بائس يحرق نقاط الأمل المستضعف في حلم الشاعر لتلك السنوات العجاف ، يتنادى الموت في أزمنة البهجة المتلاطمة على خدود الزمن المهترئ ، فلم يعد هناك سوى تنهيدة الاحتضار ومعزوفة تخرج من مزمار على أبواب المدينة التي حولتنا إلى غرباء ، فالبكاء هو المخرج من شرذمة اللحظة (الموت) ، تلك المهلكة لكل الآمال :
فإنني شارفت أن أبكي
على باب المدينة كالغريب
مفارقاً هذه الديار
يا عازف المزمار شردني
لأخلع خرقة الأحزان عن روحي المهيضة
إنني أقفلت شباكي على نفسي الحزينة
واقتعدت الليل
منسياً على باب المزار
فبكيت من يأسي قليلاً ( ص 62)
3 – وينهض المارد من رماد الحرقة مالئاً سهول عمر الشاعر بكل العنفوان والقوة كطائر الفينيق يخرج في لحظة الترمد والانبعاث ، فالغيوم الحنونة آتية تمر على شجيرات الأمسيات تلاعب سنابل القمح، التي تهزم كل الأحزان والهموم، وتلك الدروب الصغيرة خلف حواكير العمر وأغنيات الصبايا وخفقات قلوب الشبان وتلك البنت الحالمة تقرأ نشيد الليل- الحب تجلس تحت شجيرة التوت الحاضنة لكل أسرار الحب وهمسات العشاق :
بنايك يا قروية
سوقي قطيع الأيائل نحو المراعي
وسيري من البيت حتى أقاصي الحنين
بنايك يا قروية
صبي الأباريق في النهر
ثم املئيها دموعاً لتستيقظ الروح
فالفجر أشرق
وانتشرت كالمحارم رائحة الياسمين ( ص 100 )
4 –
وتعانق روح الشاعر رسومات الطفولة البريئة ، و صبا حا تهم المفعمة بالصفاء والحب، تناغي بترنيمة كشجر الأرز التي أحبها الجبل ، فلغتها حفيف القمح ولمعان حبات الحنطة وبريق الجداول ورائحة رغيف الخبز قي فوهة تنور الحياة ،فالطفولة قنديل العمر وجذوع السنديان،ويمسح هذا الجبين الغض والليمون توأمه ورنين الأجراس غصن الصبح يحمل ألحانها ،لا يملأ العمر شيئاً كالطفولة والنقاء ، فالبيت خالي إذا راح ضجيج الصغار
مدت يديها للغيوم
فسال حزن حليبها المكسور
نادت راهب الكرم البعيد
فلوح للناطور
وانهمرت على أيلول أوراق الرحيل
شيرين يا شيرين !
ياوردة العالي
كان الحمام بيتنا ومضى
والآن لا عنب ولا ذكرى
أواه لو تدرين !
والبيت خالي ( ص 115)
5 - ويتعالى صوت الانكسارات التي لحقت بالشاعر عبر حريق حياته العاطفية، فسعاد الطفولة خُطفت وصارت حلماً مرعباً ينتثر في صفحات تاريخ الأديب، ويحرك تلك المواجع بأسماء تدل على خيانات غمرت بزيفها لحظات الرقة في ضمير الشاعر فـ(خالد) يطلق من بندقيته أول كلمات الغدر ، فالحبيبة ليست سوى صدى ضاع كنقرات على وتر الروح ،ويندب الشاعر كل الأزمنة ، فالحبيبة سرقتها أيدي الوهم والغدر، وهذه النداءات الحميمة لا فائدة منها ، لقد لف الضياع كل الكلمات وكل الأمنيات
- ما عاد صوتي ليرجعها أيها العاشق الطفل
- أين هي الآن ؟
- أبصرتها آخر العرس
- ترقص مثل الحمامة في طرف الغيم
بيضاء - بيضاء
ناديتها يا سعاد ارجعي !
لم تجبني
أواه كأن النساء مرايا
نحدق لنبصر أحوال أرواحنا في الخريف ( ص 189)
لقد فتش الشاعر خفايا محيطه ودلق ما في نفسه من تطلعات وأسرار فامتزج القهر بالأمل واحتضن البرعم والزهر، وأَخْمَدَ اللهبُ الحارقُ ربيع العمر إلا أنه لم يقدر على خنق الجمر المترمد خلف هذه التراكمات لقد أطلق لوحة رسمها بنجيع قلبه ليغمر بها ربيع العالم فتزهر القصيدة بالكلمات .......
يعتبر الشعر المفجر الأقوى للذهن الإبداعي
الشاعر طالب هماش بقلم علي الصيرفي
مهما يكن من أمر ، فإن الشعر استخلص مكانته العالية في عالم الإبداع ، بأنه المتفجر الذهني الأكثر إبداعاً حتى يومنا هذا، وبوسع حامليه القول: إن الشعر يرمي إلى إحداث أعنف التغيرات البائنة في حقل الكلام والصور وحتى الأحاسيس ، فهو ينتزع الفكر من متاهات العادة ومسالكها السهلة ، ويدفعه نحو التنقل في كل اتجاه عبر عوالم العقل ،إلى الماضي والحاضر والمستقبل وبحرية مطلقة ، وإن هذه الأساليب نراها قريبة من مواطن الدقة عند الشاعر طالب هماش في ديوانه الرائع (عم مساءً أيها الرجل الغريب ) حيث الليل والغربة والريح الناحبة في ظلمة ليل تنوح فيه نايات حزينة ومحطمة ، فالهم الإنساني المتزاحم في تفعيلات القصيد عنده يزاحم تعاريج العقل وقوة الفكر، الباحث عن طريق يعبر عالم السلامة- السلامة التي ينشدها الشاعر في شعريته فالحلم يقارب الواقع بل يتفوق عليه بمضامينه المتراكمة عند ضفة الفكر المتطور لدى الشاعر والباحث في كل الأوقات عن صبي شاب يركض مع فكرة تحمل روح البشارة ،أو أنثى تحلم بعودة حبيب بعد طول الغياب ،ومن ملامح رؤية تتعامى فيها قسوة المواجهات ،فالقلوب بريئة تركض خلف فراشات الفكر الصاعد نحو الملائكة التي تتنزل في رجع المواويل ورقصات الغيوم فوق السهول العطشى ، وحزن الفرات النهر المارق غصباً رغم تلك الأيدي التي تقتل كلمات الأمهات عند مهاد صغارها ،وتأبى القلوب أن تصرع ويأبى النهر أن يبث حزنه إلا لمجراه
خذني بمجراك أرملة للخرير !
الذي رعرعته مواويل أمي
وهي تهز سريري
وردده صوتها القروي
أبى النهر أن يتأوه إلا لمجراه بين الصخور ( ص 30)
1 - وتتمزق الصور في بعض الحالات لينتج عنها كتابة تتسم بالاندفاع والقفز فوق التقاليد ، فقوة الشعر عند الشاعر ترجع إلى قوة الكلمة والاختصار الرائع في عرض الوقائع الشعرية ، فهو يعمل من خلال تقنيات مبنية على قوة الكلمات ومهمتها تفكيك هذا الواقع المبهم وربط هذه الشعرية بالنفس لأنها الصورة الحية لكل المتناهيات ، فبين الحلم والواقع وما يظنه الشاعر حالة من الحركة الدائمة تعود بقوتها إلى الصور التي تنمو في مخيلة الشاعر (هماش) ولا يمكن للكلمات التي تجلبها القضية الحياتية أن تسقطها القصيدة في بنائها بل هي تحيط ذاتها بهالة من الجدية ،فهي تتوالد دونما انقطاع من الأخدود الذي خلقته القصيدة. إن شاعرية الأديب طالب هماش ليست رواية للأحلام مهما كان في الحلم من دقة ،إنها شاعرية مفوضة لتكوين مشهد من التوتر والإنهاض، فالأديب ينقاد إلى التمايز في بناء الحلم مختزلاً فيه الواقع بكل تعثره ،جالباً أقانيم اللغة وتراتيل الليالي الباهتة، فهو يعرف أسرار الأحلام وبوح النفس في ساعات القهر ونزف الجسد ، ويقرع بقوة ناقوس التحريض والتحدي فالوقت ينقلب بين اللحظة والأخرى :
سأحرق نفسي بالنار
ثم أجمع هش الرماد
لأدفنه في تميمة صدرك
أماه
كي تبرأ الروح من حزنها المريمي
ويضحل ماء العذب بمجرى الوريد
كأن يصبح العمر بيتاً من الطين
جد حنون ، شتاءٌِ
2 – يشتد الحزن المخزون في قلب الشاعر وتتشقق أخاديد حياته لتخرِّب ملامح وجهه المتعب بالانكسار والعلقم الفج والرحيل إلى خريف بائس يحرق نقاط الأمل المستضعف في حلم الشاعر لتلك السنوات العجاف ، يتنادى الموت في أزمنة البهجة المتلاطمة على خدود الزمن المهترئ ، فلم يعد هناك سوى تنهيدة الاحتضار ومعزوفة تخرج من مزمار على أبواب المدينة التي حولتنا إلى غرباء ، فالبكاء هو المخرج من شرذمة اللحظة (الموت) ، تلك المهلكة لكل الآمال :
فإنني شارفت أن أبكي
على باب المدينة كالغريب
مفارقاً هذه الديار
يا عازف المزمار شردني
لأخلع خرقة الأحزان عن روحي المهيضة
إنني أقفلت شباكي على نفسي الحزينة
واقتعدت الليل
منسياً على باب المزار
فبكيت من يأسي قليلاً ( ص 62)
3 – وينهض المارد من رماد الحرقة مالئاً سهول عمر الشاعر بكل العنفوان والقوة كطائر الفينيق يخرج في لحظة الترمد والانبعاث ، فالغيوم الحنونة آتية تمر على شجيرات الأمسيات تلاعب سنابل القمح، التي تهزم كل الأحزان والهموم، وتلك الدروب الصغيرة خلف حواكير العمر وأغنيات الصبايا وخفقات قلوب الشبان وتلك البنت الحالمة تقرأ نشيد الليل- الحب تجلس تحت شجيرة التوت الحاضنة لكل أسرار الحب وهمسات العشاق :
بنايك يا قروية
سوقي قطيع الأيائل نحو المراعي
وسيري من البيت حتى أقاصي الحنين
بنايك يا قروية
صبي الأباريق في النهر
ثم املئيها دموعاً لتستيقظ الروح
فالفجر أشرق
وانتشرت كالمحارم رائحة الياسمين ( ص 100 )
4 –
وتعانق روح الشاعر رسومات الطفولة البريئة ، و صبا حا تهم المفعمة بالصفاء والحب، تناغي بترنيمة كشجر الأرز التي أحبها الجبل ، فلغتها حفيف القمح ولمعان حبات الحنطة وبريق الجداول ورائحة رغيف الخبز قي فوهة تنور الحياة ،فالطفولة قنديل العمر وجذوع السنديان،ويمسح هذا الجبين الغض والليمون توأمه ورنين الأجراس غصن الصبح يحمل ألحانها ،لا يملأ العمر شيئاً كالطفولة والنقاء ، فالبيت خالي إذا راح ضجيج الصغار
مدت يديها للغيوم
فسال حزن حليبها المكسور
نادت راهب الكرم البعيد
فلوح للناطور
وانهمرت على أيلول أوراق الرحيل
شيرين يا شيرين !
ياوردة العالي
كان الحمام بيتنا ومضى
والآن لا عنب ولا ذكرى
أواه لو تدرين !
والبيت خالي ( ص 115)
5 - ويتعالى صوت الانكسارات التي لحقت بالشاعر عبر حريق حياته العاطفية، فسعاد الطفولة خُطفت وصارت حلماً مرعباً ينتثر في صفحات تاريخ الأديب، ويحرك تلك المواجع بأسماء تدل على خيانات غمرت بزيفها لحظات الرقة في ضمير الشاعر فـ(خالد) يطلق من بندقيته أول كلمات الغدر ، فالحبيبة ليست سوى صدى ضاع كنقرات على وتر الروح ،ويندب الشاعر كل الأزمنة ، فالحبيبة سرقتها أيدي الوهم والغدر، وهذه النداءات الحميمة لا فائدة منها ، لقد لف الضياع كل الكلمات وكل الأمنيات
- ما عاد صوتي ليرجعها أيها العاشق الطفل
- أين هي الآن ؟
- أبصرتها آخر العرس
- ترقص مثل الحمامة في طرف الغيم
بيضاء - بيضاء
ناديتها يا سعاد ارجعي !
لم تجبني
أواه كأن النساء مرايا
نحدق لنبصر أحوال أرواحنا في الخريف ( ص 189)
لقد فتش الشاعر خفايا محيطه ودلق ما في نفسه من تطلعات وأسرار فامتزج القهر بالأمل واحتضن البرعم والزهر، وأَخْمَدَ اللهبُ الحارقُ ربيع العمر إلا أنه لم يقدر على خنق الجمر المترمد خلف هذه التراكمات لقد أطلق لوحة رسمها بنجيع قلبه ليغمر بها ربيع العالم فتزهر القصيدة بالكلمات .......