بغداد هار
عندما ينجح الشاعر في جعل المشاعر،
عملاً داخلياً ممزوجاً بالحلم
المعاصرة وتحديات المعطيات، بناء جديد لمفهوم القصيدة
الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم
لقد نفى الشعر بداهة كل عنصر شخصي غير متوافق مع القصيدة، ولم يستعمل الشعراء الكلمات بمعناها المألوف في أسلوب التقابل الذي يأتي في بناء الشعرية، بل أرادوا أن يفارقوا ويتخيلوا لأنهم ملزمون بالثقافة ، ولقد استطاعت الطرق التي اتبعها الشعراء أن ترفع من مكانة القصيدة ، فالتجربة كانت نتاجاً لجهد طويل، فالشعر يقال ليضع الاستقبال التام للشعرية في موضعها الصحيح ، والقيم ليست أمراً شخصياً خالصاً بل ربما هي الأفكار التي يستسيغها الشاعر وهي جوهر الأشياء التي يراها الناس، فالشعر ليس مقبولاً تماماً ،فهو يشمل بوجه ما الكثير من الذاتية ،وما نقرأه ونسمعه ليس عملاً أدبياً بالدرجة الأولى ،بل هو نظام أدبي تخضع له الأجناس والأعراف التي تؤول بواسطته ونحدد من خلالها جودة ما كتب ، فالشعر لا يعود دوره إلى الإدلاء بأقوال تأويلية أو تقييمية بل يتخطى ذلك في تقديمه للماضي والمستقبل، فالشعر هو تفسير آخر للواقع بل هو فهم للأعراف والقيم وصيغة الخطاب، وصقل العمل الأدبي ، وهذا ما حاول تقديمه الشاعر المبدع عبد الرحمن الإبراهيم في ديوانه (بغداد هار )
1-
إن من وظائف الشعر الأساسية الاتصال مع الناس وتبادل الآراء بين الأشخاص، فمن الصعب وجود تصور للتفكير دون الشعر، والمبدع الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم يقرأ المصائب التي تراكمت فوق مساحات عالمه ، فالرياح تعصف، والعواء يلف المكان ، والنجوم تتحرق عطشاً رغم المطر الذي يوقظ خيبة الأمل .
مطر يحط كمقلتي على بيادر راحتيك
يراود القمح المحال
وآخر بالملح يكويني ويدخر الوبال
مطر يقول ولا يقال
والجرح ينزفني
فيسرق تين ذاكرتي .... ويشرب زيت أيامي
وينسف نخل تاريخي ويرميني على الوجع
على الوجع السؤال ( ص 22 )
لقد نجح الأديب في جعل المشاعر، ليست عملاً داخل الذهن بل هي ترابط مع ما هو خارج الذهن وأحياناً تكون محطمة مشوشة، تجعلنا غير منسجمين مع حالة الأشياء الواقعية، فالشعور بالغضب من المصائب التي تتوالى على الأمة من حاملي الحرية والمقاييس الجاهزة للعدالة تدفع بالشاعر نحو الغضب والعنف ، فالمدنيّة التي حملها هؤلاء الغزاة عبر صفحات التاريخ هي أولى جمل الأسى في تواصل الشاعر مع الحياة منذ ( قََتل قابيل) لأخيه هابيل إلى (عناقيد الغضب ) من القنابل القاتلة ، فالمأساة تكشف العلاقات الكاذبة وما فيها من متناقضات محبطة لا مهرب منها نحو التناسي ، فالقتلأ والموت يفهم في هذا السياق على أنه كره استحواذي في محاولة تَمَثل ِالآخر للشاعر وهذا واضح من كره الآخر لمجتمع الأديب :
سأقص رؤياي التي شاهدت من عينيك
في وضح الأسى الممتد من ألف التمدن في رؤى قابيل
حتى ياء قنبلة العناقيد الشهية
في بساتين التأمرك والتوحش والدمار
إني رأيت قرابة السبعين كلباً فاغراً
ورأيت أمريكا كبير الآكلين
ورأيت طفلاً عارياً منكم ومني حافي الأحلام يعتل تهمة الإرهاب ( ص23)
2 –
لقد أصبحت العلاقة تتذبذب بين الظلم والكراهية ، وبين الرغبة في امتلاك الآخر لمجتمع الشاعر ولمكوناته النفسية ، فيتنقل الشاعر من الفكر التصوفي إلى مفاتيح الفكر التأملي، فالفترة التي بدأ فيها الناس يختارون عالم الأسطورة الذي يشبه الحلم أصبح كلام الشاعر يدخل في عمق الجذر الدامي مشكلاً واقعاً جديداً يحدد الموضوعات التي أهلكت كيان مجتمعه، وحاولت بعثرة قيمه وموروثه الجمعي مفتّتة كل المعايير التي يحلم بها .
ومضى يفتش – فوق مائدة القنابل
عن عمامة جده أو عن ضفيرة أمه
فرأيت قلبي ماسكاً يده التي نسفت
وجبريل الأمين ( يبوسها ) ويدس تحت جناحه
وجع الشظية
وارتقى ...ليضمد الآيات في دمها
يذّكر ..... ربما الذكرى تفيد الميتين
ورأيتها وبأم قهري –حينما راحت
تفتش عن أصابعه –بكف المسجد الأقصى –مآذن قندهار( ص24)
ويثير الحديث عن القتل،المشكلات الممتدة في رحم المجتمع، وهو تصوير مأساوي لما يجري، فالإنسان بطريقة تكوينه، هو موجود متناهٍ لكنه حر، لذلك وجد الشاعر نفسه منشغلاً بمشكلة المصير النهائي للفرد، فالفرد عند الشاعر هو الذي يُسحق في رحى هذا التطاول، والقتل القادم من قبل الآخر الحامل للتطور والتقدم ادعاءً ،فالآخر يرى أن موتَ هذا المجتمع هو التناهي الذي يخلصه من عدو لا يقبله ،وهذا ما التقطه الشاعر في قصائده ، فسيطرة الموت على رؤية الشاعر جعلته نغمة كئيبة يبحث عن حالة تجعله يتجاوز هذا التعاقب المتوالي على مجتمعه ، فالدمار أحاط ببغداد وبالمدن التي حلمت بالحياة ،فالنقمة صارت لعنة لحقت بأمة الشاعر ، من مقتل الخليفة عثمان (رض) إلى استشهاد الحسين (ع) إنه يراها في فلسفة الليكود والنفاق العربي .وكيف باع العرب حريتهم لكافور المخصيّ وكيف صار الأنا الأعلى من أبناء بوش والجميع سراً من آل (ا بن لا دن ) فالمدن التاريخية لمجتمعه تموت على يد (هولاكو- بوش ) من قندهار إلى بغداد هار . وكابول- وجنين – والقدس – وغزة فالغصة تملأ حلق الأديب، تسكته ترهق كلماته، وتطفئ ضوء رؤيته ، فالذل يتربع في طنجة وقندهار – وقاهرة المعز – وبغداد الرشيد، تداس بحاملات الطائرات وعلب الحلوى الممرغة باغتصاب الأمهات، وتشرد الأطفال لكن الأمل المعلق على دمشق ، لا زال قائماً لتصبح ضفائر الصبايا سيوفاً في يد أحفاد ابن الوليد ،وهذا الخزي المتراكم في عواصم العرب،وتساقط جنوده في حانات العهر مقايضين بخوذاتهم عرقاً يسكرون بغوله، وتلك المآذن التي تنادي الله أكبر ترى الهاربين قد تركوا الشهداء يقتلون في الكرمل رغم رجع الصدى من صهيل خيول بدر، وطعم سيوف" خيبر"، "وحطين" "واليرموك" "– ورام الله" .فالقتل ثم القتل مشرع في مضارب الغرباء من قينقاع – ويأجوج ومأجوج، ومجلس الأمن كله مع هؤلاء الوحوش- بوش الأب ، وبوش الابن – والطاعون والعلقم ، لكن الحلم لن يغادر عيون الأمة ( فجنين ) المدينة المنكوبة كيثرب نظفها العرب من الغرباء وصدور هؤلاء المقاومين هي الخندق كناية عن غزوة الخندق فهذه الصدور كالرياح عند الخندق ، وفي هذه المرة سيكون رحم الأرض موئلاً للقمح الذي سيخلق الجديد من المقاتلين :
ستدخل رحم هذي الأرض أقماحاً
لكي تخلق
وتبزغ كالرغيف الحلو من يدها
ويحمل طعمك الزعتر
تسيل الآن ألواناً
تمد التيه للأعلام
من شريانك الأطهر وتحضن وجهك الأنقاض
والأزهار في الأحواض والجارات
والحارات والرايات ... والآفاق
تحضن في الجبين المكتوي وطناً ( ص39)
3 –
وينقل الشاعر الرائع عبد الرحمن الإبراهيم تجربته الشعرية متعمداً في نهر الشعر التقليدي فينكب على القصيدة القديمة محاولاً امتطاء صهوتها ، والتعامد مع عمودها ، والتآلف مع قوافيها ، فارتسم كلاماً صار صوراً شعرية ، حملت سمات فكره ، ورؤيته متلمساً جراح أمة جرحتها قوافل الغزاة حتى ضاع الجرح الأول ، فكان عليه أن يعود مرة أخرى إلى مشكلات الوجود فماهية الإنسان بنظره كامنة في وجوده ،وآلامه تلحق به ضمن هذا الوجود ، فهو يبدأ من أفكاره ومن الأشياء التي تؤكد روابط التشابه بين الشعر والفكرة ، فمعيار الشعر صدق الأفكار ،وهذه المناقشة عند الشاعر الإبراهيم تساعدنا على رؤية الفوارق بين التحليلات الكتابية والشعرية في القصيدة ، فتبادل المشاعر والمشاركة الوجدانية والحب –وقهر الاغتراب – والشخصنة –والانتقال إلى الحرية والانتصار على الضرورة المستبعدة وسيادة الكيف على الكم والإبداع على الاتباع ،إن هذه المناقشات التي يقدمها الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم تساعدنا على رؤية الفارق بين التحليلات الأدبية، وبين نتائج شعريته التجريبية التي دخلت في التحليل النفسي وعلم المجتمعات ، فكل ما يعنيه من ذلك هو الإنسان بوصفه حالة تمر في كل مراحل التطورات الحياتية ... وهكذا نجد أنفسنا مع الشاعر المبدع وسط كثير من المشكلات الصعبة تتعلق بالحقيقة والفهم حيث يبدو فيه الشعر يدخل منطقة تهاوت فيها صرامة المواقف حيث تبدو كل الأشياء تومض في ضباب الشعر والتصوف فالشاعر لن يتخلى عن أي موقف طموح فهو يتحدث من منظور مميز يقع داخل وجوده ، وهو يعمل على تحميل شعريته أقوالاً تعبر عن انفعالاته الذاتية فهو يملك الكثير من المعرفة والتجربة الثقافية رغم تواضعه في الكثير من المتابعات حيث يقدم الفكرة بروح مسالمة تحمل الحب لمن يتلقى الفكرة .
ليس حباً أن تشتهي جسداً بل قهر شعب ليشتهيك البكاء
مثلما الزهر من وريد الروابي فمن الجرح تشرب الكبرياء
وكما النجم من ضلال الليالي فمن الكفر يطلع الأنبياء
لقد تعمد الشاعر على تحليل ما يجري على رقعة كبيرة من الفراغ المميت المخيم فوق كيانه ليرسم صورة للصراعات والتوترات على أرض واقع اختلت موازينه بملء إرادة حاكميه فالحرية والإرادة ،واتخاذ القرار أغلق عليهم بإحكام من قبل غرباء ووحوش موجودين في كل أصقاع الأرض ،وظل الهمُّ القومي ينبعث مترمداً في ظمأ من الجفاف المتعمد وابتعاد التدابير لقلب الرؤية البائسة وتقديم الوطن على المصلحة الفردية حيث يباع الوطن جملة ومفرقاً وانتهاك المحرم جمعاً وتشريد المتفهم لتلك الحملة القادمة المغموسة بدم الأطفال في جنبن وقانا وبنت جبيل ويُهتك ستر بغداد ويمزق رحمها فيصطبغ دجلة بحيض الغادرين
فتنير دياجير ظلمهم صواريخ " توما هوك " و"اليورانيوم المنضب" وفرق الموت و" بلاك ووتر" إلا أن الأمة ناهضة لا تغمض عينها عن قادم غادر يلبس جناحي ملاك فالنار المنبعثة من عمق الفرات ستحرق في شط العرب حاملات الغدر والقتل لتظهر جموع الأطفال من عمق الوطن بعد غياب ....... ؟ !
عندما ينجح الشاعر في جعل المشاعر،
عملاً داخلياً ممزوجاً بالحلم
المعاصرة وتحديات المعطيات، بناء جديد لمفهوم القصيدة
الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم
لقد نفى الشعر بداهة كل عنصر شخصي غير متوافق مع القصيدة، ولم يستعمل الشعراء الكلمات بمعناها المألوف في أسلوب التقابل الذي يأتي في بناء الشعرية، بل أرادوا أن يفارقوا ويتخيلوا لأنهم ملزمون بالثقافة ، ولقد استطاعت الطرق التي اتبعها الشعراء أن ترفع من مكانة القصيدة ، فالتجربة كانت نتاجاً لجهد طويل، فالشعر يقال ليضع الاستقبال التام للشعرية في موضعها الصحيح ، والقيم ليست أمراً شخصياً خالصاً بل ربما هي الأفكار التي يستسيغها الشاعر وهي جوهر الأشياء التي يراها الناس، فالشعر ليس مقبولاً تماماً ،فهو يشمل بوجه ما الكثير من الذاتية ،وما نقرأه ونسمعه ليس عملاً أدبياً بالدرجة الأولى ،بل هو نظام أدبي تخضع له الأجناس والأعراف التي تؤول بواسطته ونحدد من خلالها جودة ما كتب ، فالشعر لا يعود دوره إلى الإدلاء بأقوال تأويلية أو تقييمية بل يتخطى ذلك في تقديمه للماضي والمستقبل، فالشعر هو تفسير آخر للواقع بل هو فهم للأعراف والقيم وصيغة الخطاب، وصقل العمل الأدبي ، وهذا ما حاول تقديمه الشاعر المبدع عبد الرحمن الإبراهيم في ديوانه (بغداد هار )
1-
إن من وظائف الشعر الأساسية الاتصال مع الناس وتبادل الآراء بين الأشخاص، فمن الصعب وجود تصور للتفكير دون الشعر، والمبدع الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم يقرأ المصائب التي تراكمت فوق مساحات عالمه ، فالرياح تعصف، والعواء يلف المكان ، والنجوم تتحرق عطشاً رغم المطر الذي يوقظ خيبة الأمل .
مطر يحط كمقلتي على بيادر راحتيك
يراود القمح المحال
وآخر بالملح يكويني ويدخر الوبال
مطر يقول ولا يقال
والجرح ينزفني
فيسرق تين ذاكرتي .... ويشرب زيت أيامي
وينسف نخل تاريخي ويرميني على الوجع
على الوجع السؤال ( ص 22 )
لقد نجح الأديب في جعل المشاعر، ليست عملاً داخل الذهن بل هي ترابط مع ما هو خارج الذهن وأحياناً تكون محطمة مشوشة، تجعلنا غير منسجمين مع حالة الأشياء الواقعية، فالشعور بالغضب من المصائب التي تتوالى على الأمة من حاملي الحرية والمقاييس الجاهزة للعدالة تدفع بالشاعر نحو الغضب والعنف ، فالمدنيّة التي حملها هؤلاء الغزاة عبر صفحات التاريخ هي أولى جمل الأسى في تواصل الشاعر مع الحياة منذ ( قََتل قابيل) لأخيه هابيل إلى (عناقيد الغضب ) من القنابل القاتلة ، فالمأساة تكشف العلاقات الكاذبة وما فيها من متناقضات محبطة لا مهرب منها نحو التناسي ، فالقتلأ والموت يفهم في هذا السياق على أنه كره استحواذي في محاولة تَمَثل ِالآخر للشاعر وهذا واضح من كره الآخر لمجتمع الأديب :
سأقص رؤياي التي شاهدت من عينيك
في وضح الأسى الممتد من ألف التمدن في رؤى قابيل
حتى ياء قنبلة العناقيد الشهية
في بساتين التأمرك والتوحش والدمار
إني رأيت قرابة السبعين كلباً فاغراً
ورأيت أمريكا كبير الآكلين
ورأيت طفلاً عارياً منكم ومني حافي الأحلام يعتل تهمة الإرهاب ( ص23)
2 –
لقد أصبحت العلاقة تتذبذب بين الظلم والكراهية ، وبين الرغبة في امتلاك الآخر لمجتمع الشاعر ولمكوناته النفسية ، فيتنقل الشاعر من الفكر التصوفي إلى مفاتيح الفكر التأملي، فالفترة التي بدأ فيها الناس يختارون عالم الأسطورة الذي يشبه الحلم أصبح كلام الشاعر يدخل في عمق الجذر الدامي مشكلاً واقعاً جديداً يحدد الموضوعات التي أهلكت كيان مجتمعه، وحاولت بعثرة قيمه وموروثه الجمعي مفتّتة كل المعايير التي يحلم بها .
ومضى يفتش – فوق مائدة القنابل
عن عمامة جده أو عن ضفيرة أمه
فرأيت قلبي ماسكاً يده التي نسفت
وجبريل الأمين ( يبوسها ) ويدس تحت جناحه
وجع الشظية
وارتقى ...ليضمد الآيات في دمها
يذّكر ..... ربما الذكرى تفيد الميتين
ورأيتها وبأم قهري –حينما راحت
تفتش عن أصابعه –بكف المسجد الأقصى –مآذن قندهار( ص24)
ويثير الحديث عن القتل،المشكلات الممتدة في رحم المجتمع، وهو تصوير مأساوي لما يجري، فالإنسان بطريقة تكوينه، هو موجود متناهٍ لكنه حر، لذلك وجد الشاعر نفسه منشغلاً بمشكلة المصير النهائي للفرد، فالفرد عند الشاعر هو الذي يُسحق في رحى هذا التطاول، والقتل القادم من قبل الآخر الحامل للتطور والتقدم ادعاءً ،فالآخر يرى أن موتَ هذا المجتمع هو التناهي الذي يخلصه من عدو لا يقبله ،وهذا ما التقطه الشاعر في قصائده ، فسيطرة الموت على رؤية الشاعر جعلته نغمة كئيبة يبحث عن حالة تجعله يتجاوز هذا التعاقب المتوالي على مجتمعه ، فالدمار أحاط ببغداد وبالمدن التي حلمت بالحياة ،فالنقمة صارت لعنة لحقت بأمة الشاعر ، من مقتل الخليفة عثمان (رض) إلى استشهاد الحسين (ع) إنه يراها في فلسفة الليكود والنفاق العربي .وكيف باع العرب حريتهم لكافور المخصيّ وكيف صار الأنا الأعلى من أبناء بوش والجميع سراً من آل (ا بن لا دن ) فالمدن التاريخية لمجتمعه تموت على يد (هولاكو- بوش ) من قندهار إلى بغداد هار . وكابول- وجنين – والقدس – وغزة فالغصة تملأ حلق الأديب، تسكته ترهق كلماته، وتطفئ ضوء رؤيته ، فالذل يتربع في طنجة وقندهار – وقاهرة المعز – وبغداد الرشيد، تداس بحاملات الطائرات وعلب الحلوى الممرغة باغتصاب الأمهات، وتشرد الأطفال لكن الأمل المعلق على دمشق ، لا زال قائماً لتصبح ضفائر الصبايا سيوفاً في يد أحفاد ابن الوليد ،وهذا الخزي المتراكم في عواصم العرب،وتساقط جنوده في حانات العهر مقايضين بخوذاتهم عرقاً يسكرون بغوله، وتلك المآذن التي تنادي الله أكبر ترى الهاربين قد تركوا الشهداء يقتلون في الكرمل رغم رجع الصدى من صهيل خيول بدر، وطعم سيوف" خيبر"، "وحطين" "واليرموك" "– ورام الله" .فالقتل ثم القتل مشرع في مضارب الغرباء من قينقاع – ويأجوج ومأجوج، ومجلس الأمن كله مع هؤلاء الوحوش- بوش الأب ، وبوش الابن – والطاعون والعلقم ، لكن الحلم لن يغادر عيون الأمة ( فجنين ) المدينة المنكوبة كيثرب نظفها العرب من الغرباء وصدور هؤلاء المقاومين هي الخندق كناية عن غزوة الخندق فهذه الصدور كالرياح عند الخندق ، وفي هذه المرة سيكون رحم الأرض موئلاً للقمح الذي سيخلق الجديد من المقاتلين :
ستدخل رحم هذي الأرض أقماحاً
لكي تخلق
وتبزغ كالرغيف الحلو من يدها
ويحمل طعمك الزعتر
تسيل الآن ألواناً
تمد التيه للأعلام
من شريانك الأطهر وتحضن وجهك الأنقاض
والأزهار في الأحواض والجارات
والحارات والرايات ... والآفاق
تحضن في الجبين المكتوي وطناً ( ص39)
3 –
وينقل الشاعر الرائع عبد الرحمن الإبراهيم تجربته الشعرية متعمداً في نهر الشعر التقليدي فينكب على القصيدة القديمة محاولاً امتطاء صهوتها ، والتعامد مع عمودها ، والتآلف مع قوافيها ، فارتسم كلاماً صار صوراً شعرية ، حملت سمات فكره ، ورؤيته متلمساً جراح أمة جرحتها قوافل الغزاة حتى ضاع الجرح الأول ، فكان عليه أن يعود مرة أخرى إلى مشكلات الوجود فماهية الإنسان بنظره كامنة في وجوده ،وآلامه تلحق به ضمن هذا الوجود ، فهو يبدأ من أفكاره ومن الأشياء التي تؤكد روابط التشابه بين الشعر والفكرة ، فمعيار الشعر صدق الأفكار ،وهذه المناقشة عند الشاعر الإبراهيم تساعدنا على رؤية الفوارق بين التحليلات الكتابية والشعرية في القصيدة ، فتبادل المشاعر والمشاركة الوجدانية والحب –وقهر الاغتراب – والشخصنة –والانتقال إلى الحرية والانتصار على الضرورة المستبعدة وسيادة الكيف على الكم والإبداع على الاتباع ،إن هذه المناقشات التي يقدمها الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم تساعدنا على رؤية الفارق بين التحليلات الأدبية، وبين نتائج شعريته التجريبية التي دخلت في التحليل النفسي وعلم المجتمعات ، فكل ما يعنيه من ذلك هو الإنسان بوصفه حالة تمر في كل مراحل التطورات الحياتية ... وهكذا نجد أنفسنا مع الشاعر المبدع وسط كثير من المشكلات الصعبة تتعلق بالحقيقة والفهم حيث يبدو فيه الشعر يدخل منطقة تهاوت فيها صرامة المواقف حيث تبدو كل الأشياء تومض في ضباب الشعر والتصوف فالشاعر لن يتخلى عن أي موقف طموح فهو يتحدث من منظور مميز يقع داخل وجوده ، وهو يعمل على تحميل شعريته أقوالاً تعبر عن انفعالاته الذاتية فهو يملك الكثير من المعرفة والتجربة الثقافية رغم تواضعه في الكثير من المتابعات حيث يقدم الفكرة بروح مسالمة تحمل الحب لمن يتلقى الفكرة .
ليس حباً أن تشتهي جسداً بل قهر شعب ليشتهيك البكاء
مثلما الزهر من وريد الروابي فمن الجرح تشرب الكبرياء
وكما النجم من ضلال الليالي فمن الكفر يطلع الأنبياء
لقد تعمد الشاعر على تحليل ما يجري على رقعة كبيرة من الفراغ المميت المخيم فوق كيانه ليرسم صورة للصراعات والتوترات على أرض واقع اختلت موازينه بملء إرادة حاكميه فالحرية والإرادة ،واتخاذ القرار أغلق عليهم بإحكام من قبل غرباء ووحوش موجودين في كل أصقاع الأرض ،وظل الهمُّ القومي ينبعث مترمداً في ظمأ من الجفاف المتعمد وابتعاد التدابير لقلب الرؤية البائسة وتقديم الوطن على المصلحة الفردية حيث يباع الوطن جملة ومفرقاً وانتهاك المحرم جمعاً وتشريد المتفهم لتلك الحملة القادمة المغموسة بدم الأطفال في جنبن وقانا وبنت جبيل ويُهتك ستر بغداد ويمزق رحمها فيصطبغ دجلة بحيض الغادرين
فتنير دياجير ظلمهم صواريخ " توما هوك " و"اليورانيوم المنضب" وفرق الموت و" بلاك ووتر" إلا أن الأمة ناهضة لا تغمض عينها عن قادم غادر يلبس جناحي ملاك فالنار المنبعثة من عمق الفرات ستحرق في شط العرب حاملات الغدر والقتل لتظهر جموع الأطفال من عمق الوطن بعد غياب ....... ؟ !