في منزلي صورة ينتابني عند النظر إليها رأفة لا حدّ لها. فيها تظهر فتاة فاتحة الشعر نحيلة، كانت حيةً ذات يوم أما الآن فَتَحْتَ التراب. على وجهها تَضّل ابتسامة، ضعيفة ومزينة كما لو أنها ستشرع بالبكاء بعد قليل. يداها متصالبتان وعلى صدرها طاقة أزهار ذلك الزمان، تلك التي صارت الآن رماداً هشاً.
لقد ذهّب الدهر الصورة كلّها تقريباً ما عدا وجه الفتاة الأبيض الكامد ببساطة. وألبستها الفضفاضة النيلية موشاة كلّها بجديلة سوداء. إلى جوارها طربيزة مغطّاة بفوطة ذات أهداب، وعليها يستلقي صليب وكثير من الكتب. لم أعرف أبداً من تكون هذه الكينونة الملائكية، لأن أمي عندما كنت أسألها كانت تجيبني:
"هذه إحدى صديقات أمي، وقد ماتت في ريعان الشباب" ولم أكن أهدأ "وما هو اسمها؟" وكانت أمي تجيبني وهي تقوم بحركة غريبة: "أوه، اتركني بحالي!" وهكذا كلّما أخرجوا ألبستي من الصندوق المطروق بالمعدن، حيث كانت الصورة، سارعتُ إلى التملّي بها، وكانت تتملّكني بعدئذ ذكريات ملتبسة بتلك الرائحة الخاصة التي تميّز الأشياء الممنوعة. عندما كنت طفلاً كانت هذه الصورة كابوسي على مد الكثير من الليالي التي لا نهاية لها، تلك الليالي عندما تتكشف الأسرار الدفينة، تلك الليالي التي تمهّد للفتوّة. كانت عينا هذه المرأة كبيرتين مثل شمسين وفمها كنزاً للرقّة.. في تلك الساعات عندما كانت العائلة تسافر فأبقى وحدي كنت، وباحتراس من ينوي القيام بجريمة، أستلّ مزلاجَ الصندوق بسلك، أزيل رسائل قديمة وحريراً وأشياء للذكرى، ثم أعثر على الصورة. كنت أتطلّع إليها ساعات طويلة مثل أبله، وأتخيّل أن هذه الفتاة تتحدث معي وتحكي لي الحكايات الرائعة والمرعبة جداً من تلك التي يمكن أن تعرفها هي وحدها دون سواها. لم تكن مخيلتي الطفيلية تعرف حدوداً، وهكذا فقد بدا لي أن الفتاة لا تتحدث معي فقط من الصورة بل وترى بعينيها، فكنت أخاف من أن تسحراني. أذكر ذلك اليوم عندما حدّثتني عمّاتي عن شيء ما حزين فهزّتني مشاعري مباشرة، وذهبت، عندئذٍ وفتحت الصندوق.. رأيت على الصورة صليباً صغيراً هو ذلك الذي كانت جدتي تمسك به بيديها الميّتتين. وعند رؤيتي هذا الصليب الفضيّ الصغير الذي صلّت به جدّتي للمرة الأخيرة بدأت أرتجف بكياني كلّه وهربت من تلك الغرفة مثل روح يطاردها الشيطان حتى لقد تهيأت لي خطوات خلف ظهري.
في الليل، عندما كان أخي ينام كنت أذهب بلا صوت وأخرج الصورة من مخبئها، أضمها إلى صدري وأنام.. من كانت تلك الفتاة؟ ما الذي كان يتخفّى وراء قسمات وجهها الرقيقة والطيبة؟ وكان ما يعزّي قلبي هو أن أتطلّع إليها وأقبلها بشفتيّ العذريتين.
كان يبدو لي أن الصورة تسدي لي النصائح، وكنت غالباً ما أضعها على وجهي وأبكي وأنا نفسي لا أعرف لماذا. لا أعرف ما إذا كنت سأستطيع أن أفسر ما الذي كان يحدث معي آنذاك، أعرف فقط أنني كنت سعيداً. كانت روحي نقية وغير خاطئة، وقد أحببت بغير عمد تلك المرأة التي سارت على الأرض قبل سنين كثيرة. كانت حبي الأول، ومشاعري الأكثر قوة وحرارة من كلّ ما تسنّى لي أن أشعر به في كل حياتي القصيرة.
-هل من المعقول مثلاً أنكم لا تعرفون اسمها؟ -كنت أسأل دائماً وكانوا يجيبونني:
-لقد كانت صديقة الجدة الحميمة التي ماتت من المعاناة.
-من المعاناة! –هتفتُ.. وتساءلت من جديد، ولكن عبثاً: -ما اسمها؟
-لا نعرف –أجابوني.
ودون أن أعرف من كانت هذه الطلعة النبيلة المحاطة بهالة من المعاناة أحببتها بجنون وشغف. ثم جعلتُ إحدى عمّاتي، تلك الغرباء التي كانت تحكي لي حكايات عن الأيدي السوداء المشعرة التي تسرق الأطفال لتغرقهم في البحر، جعلتُها تحدثني كيف ولماذا تبدو تلك المرأة حزينة إلى هذه الدرجة. فوضعتني على ركبتيها إذ أخذت تهدهدني بمحبة بدأت قصتها عن تلك المرأة في الصورة وكيف كان لها خطيب هجرها فماتت من الحب والمعاناة، وكيف ذهبت جدتي لتهدئها وتشدّ من أزرها عندما أزفت هذه الساعة الرهيبة. وقد أذهلت هذه القصة قلبي البسيط والرقيق وجعلتني أتحسّر بعمق، مشفقاً عليها لأنها ماتت تعيسة إلى هذا الحد.. كانت علاقاتي حميمة مع هذه الصورة بحيث لم أفكر بعد بشيء آخر.. ولأن الطفل في يوم معلوم سوف يتغيّر وتظهر لديه مشاعر جديدة.
-فقد حلّ هذا الوقت بالنسبة لي أيضاً. تكشف أمامي سرّ الحياة العظيم فأدهشتني رؤياه. كل الرجال وكل النساء بدوا لي خاطئين فنظرت إلى المسيح المعلّق في غرفتي وكأنني لمته على شيء ما. كل أفكاري الأكثر نقاء تحوّلت مباشرة أمام عيني إلى شيء من قبيل الأعمدة البابلية. الأطفال إذاً يخرجون من بطن الأم، ولا تأتي بهم الملائكة في سلّة أزهار! اتسع أمامي فراغ وخيبة أمل عميقة ملأا عليّ قلبي وروحي علانيةً.. إن قوة حيّة بعينين سوداوين وبيدين مرتعشتين داست على أزهار نقائي العذري، وكشفت لي عن مكائد الحياة، منتزعة مني عفاف ومخيلة طفولتي.. وبعد أن اكتشفت هذا السرّ العظيم لم أعد أجرؤ على النظر إلى صورة فتاتي الحبيبة، حيث كانت تبتسم من خلال الدموع. في تلك الليلة خنقني النحيب الذي لا عزاء له وجعلني أنسى تلك التي أحببت. في تلك الليلة خفق في داخلي قلب الرجل –فشعرت بجنسي. في تلك الليلة دفنت في روحي الحلم الأهم في حياتي. في تلك الليلة المرعبة ولدت في داخلي الأهواء.. الآن تقبع الصورة منسيّةً في الصندوق نفسه وعندما أراها أتذكر الشوق الذي بلا قرار والذي سكن في قلبي آنذاك.. اليوم أعرف أن تلك الفتاة ماتت من مرض عادي، أما خطيبها فقد قتل في الحرب. ولكنها، كائنة من كانت، هي حبي الأول، الحب الحقيقي الذي بفضله شعرت بأني رجل محبّ هكذا ببساطةٍ ومن أجل لا شيء، الحب الذي كان بمثابة أريج مقدّس بالنسبة إلى قلبي الطفلي، الحب الصافي من غير نداء الجسد.. ذلك العهد اختفى بلا أثر، وقلبي أصبح غيره. لم يبق من الماضي غير حزن رهيف وصورة تفوح منها رائحة خبز وقِدَمٍ وطهارة
لقد ذهّب الدهر الصورة كلّها تقريباً ما عدا وجه الفتاة الأبيض الكامد ببساطة. وألبستها الفضفاضة النيلية موشاة كلّها بجديلة سوداء. إلى جوارها طربيزة مغطّاة بفوطة ذات أهداب، وعليها يستلقي صليب وكثير من الكتب. لم أعرف أبداً من تكون هذه الكينونة الملائكية، لأن أمي عندما كنت أسألها كانت تجيبني:
"هذه إحدى صديقات أمي، وقد ماتت في ريعان الشباب" ولم أكن أهدأ "وما هو اسمها؟" وكانت أمي تجيبني وهي تقوم بحركة غريبة: "أوه، اتركني بحالي!" وهكذا كلّما أخرجوا ألبستي من الصندوق المطروق بالمعدن، حيث كانت الصورة، سارعتُ إلى التملّي بها، وكانت تتملّكني بعدئذ ذكريات ملتبسة بتلك الرائحة الخاصة التي تميّز الأشياء الممنوعة. عندما كنت طفلاً كانت هذه الصورة كابوسي على مد الكثير من الليالي التي لا نهاية لها، تلك الليالي عندما تتكشف الأسرار الدفينة، تلك الليالي التي تمهّد للفتوّة. كانت عينا هذه المرأة كبيرتين مثل شمسين وفمها كنزاً للرقّة.. في تلك الساعات عندما كانت العائلة تسافر فأبقى وحدي كنت، وباحتراس من ينوي القيام بجريمة، أستلّ مزلاجَ الصندوق بسلك، أزيل رسائل قديمة وحريراً وأشياء للذكرى، ثم أعثر على الصورة. كنت أتطلّع إليها ساعات طويلة مثل أبله، وأتخيّل أن هذه الفتاة تتحدث معي وتحكي لي الحكايات الرائعة والمرعبة جداً من تلك التي يمكن أن تعرفها هي وحدها دون سواها. لم تكن مخيلتي الطفيلية تعرف حدوداً، وهكذا فقد بدا لي أن الفتاة لا تتحدث معي فقط من الصورة بل وترى بعينيها، فكنت أخاف من أن تسحراني. أذكر ذلك اليوم عندما حدّثتني عمّاتي عن شيء ما حزين فهزّتني مشاعري مباشرة، وذهبت، عندئذٍ وفتحت الصندوق.. رأيت على الصورة صليباً صغيراً هو ذلك الذي كانت جدتي تمسك به بيديها الميّتتين. وعند رؤيتي هذا الصليب الفضيّ الصغير الذي صلّت به جدّتي للمرة الأخيرة بدأت أرتجف بكياني كلّه وهربت من تلك الغرفة مثل روح يطاردها الشيطان حتى لقد تهيأت لي خطوات خلف ظهري.
في الليل، عندما كان أخي ينام كنت أذهب بلا صوت وأخرج الصورة من مخبئها، أضمها إلى صدري وأنام.. من كانت تلك الفتاة؟ ما الذي كان يتخفّى وراء قسمات وجهها الرقيقة والطيبة؟ وكان ما يعزّي قلبي هو أن أتطلّع إليها وأقبلها بشفتيّ العذريتين.
كان يبدو لي أن الصورة تسدي لي النصائح، وكنت غالباً ما أضعها على وجهي وأبكي وأنا نفسي لا أعرف لماذا. لا أعرف ما إذا كنت سأستطيع أن أفسر ما الذي كان يحدث معي آنذاك، أعرف فقط أنني كنت سعيداً. كانت روحي نقية وغير خاطئة، وقد أحببت بغير عمد تلك المرأة التي سارت على الأرض قبل سنين كثيرة. كانت حبي الأول، ومشاعري الأكثر قوة وحرارة من كلّ ما تسنّى لي أن أشعر به في كل حياتي القصيرة.
-هل من المعقول مثلاً أنكم لا تعرفون اسمها؟ -كنت أسأل دائماً وكانوا يجيبونني:
-لقد كانت صديقة الجدة الحميمة التي ماتت من المعاناة.
-من المعاناة! –هتفتُ.. وتساءلت من جديد، ولكن عبثاً: -ما اسمها؟
-لا نعرف –أجابوني.
ودون أن أعرف من كانت هذه الطلعة النبيلة المحاطة بهالة من المعاناة أحببتها بجنون وشغف. ثم جعلتُ إحدى عمّاتي، تلك الغرباء التي كانت تحكي لي حكايات عن الأيدي السوداء المشعرة التي تسرق الأطفال لتغرقهم في البحر، جعلتُها تحدثني كيف ولماذا تبدو تلك المرأة حزينة إلى هذه الدرجة. فوضعتني على ركبتيها إذ أخذت تهدهدني بمحبة بدأت قصتها عن تلك المرأة في الصورة وكيف كان لها خطيب هجرها فماتت من الحب والمعاناة، وكيف ذهبت جدتي لتهدئها وتشدّ من أزرها عندما أزفت هذه الساعة الرهيبة. وقد أذهلت هذه القصة قلبي البسيط والرقيق وجعلتني أتحسّر بعمق، مشفقاً عليها لأنها ماتت تعيسة إلى هذا الحد.. كانت علاقاتي حميمة مع هذه الصورة بحيث لم أفكر بعد بشيء آخر.. ولأن الطفل في يوم معلوم سوف يتغيّر وتظهر لديه مشاعر جديدة.
-فقد حلّ هذا الوقت بالنسبة لي أيضاً. تكشف أمامي سرّ الحياة العظيم فأدهشتني رؤياه. كل الرجال وكل النساء بدوا لي خاطئين فنظرت إلى المسيح المعلّق في غرفتي وكأنني لمته على شيء ما. كل أفكاري الأكثر نقاء تحوّلت مباشرة أمام عيني إلى شيء من قبيل الأعمدة البابلية. الأطفال إذاً يخرجون من بطن الأم، ولا تأتي بهم الملائكة في سلّة أزهار! اتسع أمامي فراغ وخيبة أمل عميقة ملأا عليّ قلبي وروحي علانيةً.. إن قوة حيّة بعينين سوداوين وبيدين مرتعشتين داست على أزهار نقائي العذري، وكشفت لي عن مكائد الحياة، منتزعة مني عفاف ومخيلة طفولتي.. وبعد أن اكتشفت هذا السرّ العظيم لم أعد أجرؤ على النظر إلى صورة فتاتي الحبيبة، حيث كانت تبتسم من خلال الدموع. في تلك الليلة خنقني النحيب الذي لا عزاء له وجعلني أنسى تلك التي أحببت. في تلك الليلة خفق في داخلي قلب الرجل –فشعرت بجنسي. في تلك الليلة دفنت في روحي الحلم الأهم في حياتي. في تلك الليلة المرعبة ولدت في داخلي الأهواء.. الآن تقبع الصورة منسيّةً في الصندوق نفسه وعندما أراها أتذكر الشوق الذي بلا قرار والذي سكن في قلبي آنذاك.. اليوم أعرف أن تلك الفتاة ماتت من مرض عادي، أما خطيبها فقد قتل في الحرب. ولكنها، كائنة من كانت، هي حبي الأول، الحب الحقيقي الذي بفضله شعرت بأني رجل محبّ هكذا ببساطةٍ ومن أجل لا شيء، الحب الذي كان بمثابة أريج مقدّس بالنسبة إلى قلبي الطفلي، الحب الصافي من غير نداء الجسد.. ذلك العهد اختفى بلا أثر، وقلبي أصبح غيره. لم يبق من الماضي غير حزن رهيف وصورة تفوح منها رائحة خبز وقِدَمٍ وطهارة